متى تُعتبر الأرضُ ديارًا لابن آدم؟ متى تكون له وطنًا؟ هل هناك مدةٌ زمنيةٌ محددةٌ، أم أحداثٌ معيّنةٌ يُشترط أن يعيشها أو يخوضها الفردُ في بقعةٍ ما، لتُصبح له وطنًا، لتكون ديارَه التي يحنّ إليها ويشعر فيها بالانتماء، ويلبس فيها ثوب نفسه وروحه الذي يرتاح فيه؟ كم هو جميل ذلك الشعور... أن تعود مُحمَّلًا إلى ديارك، فتُلقي كلّ ما كان يشغل قلبك وروحك، وكأنك تضع أحمالًا من فوق كتفيك ومقدمة رأسك، فتصبح خفيفًا كريشةٍ يُداعبها نسيمُ ريحٍ خفيف... لتكون أنت، وأنت فقط.
أخذَت مني الديار حيزًا لا بأس به من التفكير والتحليل العميقين، في محاولةٍ للوصول إلى منطقٍ يقبله عقلي.
منذ نعومة أظافري، وشعورٌ جامحٌ يجتاحني؛ أشعر دائمًا أني فردٌ غريب، ببساطة: وجدتُ نفسي في مكانٍ لا أشعر فيه بالانتماء. ومنذ ذلك الحين، وأنا أبحث عن ديارٍ أشعر فيها بالتجذر، أشعر بأنني أنتمي إليها، أتذوق شعور أمومة الأرض التي يتغنى بها الشعراء، ديارٍ أشعر بأني أُلقي إليها بثقل كاهلي فتمتصّ ما يشغل قلبي ويشتت روحي، ديارٍ أعود فيها لذاتي الحقيقية بلا وجوهٍ مُصطنعةٍ أو قلوبٍ غلفها الوهم، ديارٍ تشفي روحي وترويني عذبَ وجودي بين جوانبها، فتحنّ إليها روحي كلّما ابتعدت.
جرّبت أن أزور كلّ مكانٍ أستطيع الوصول إليه، ويكون ذا صفاتٍ معيّنةٍ تُؤهله أن يكون دياري التي تطمئنّ فيها، ولها، روحي. حتى وصلتُ إلى مقابر المسلمين، فوجدتني أشعر برابطٍ لا أستطيع تفسيره. لماذا أشعر بأني أقرب إلى الموتى منّي إلى الأحياء؟ شعورٌ غريبٌ جميل، وكأنّ روحي تستمع للحنٍ قديمٍ اعتادت عليه وكانت تعلمه.
أشعر أني دخلتُ منزلي الذي غادرته قبل مدى بعيد، وأصابني نوعٌ من النسيان، فتجرّعت ألم الفقد... ونسيتُ أني فقدت، لكن مشاعري لم تنسَ.
هناك ألمٌ يقترض من روحي، كأنه ألم فقد، كأنه فراغٌ يُصيب قلب الإنسان حين يفقد شيئًا عزيزًا. قال تعالى: (وأصبح فؤادُ أم موسى فارغًا إن كادت لتُبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين).
شعوري بالغربة، وأني في مكانٍ لا أنتمي إليه، يأكل من روحي مقدارًا كلّ يوم... وسط عاصفةٍ من التيه، أجدني أسأل ربي وخالقي:
ربي، أين هو الطريق؟ أرشدني إلى الديار. لماذا أشعر بفراغٍ شديدٍ في صدري؟ لماذا أتجرّع ألم الفاقدين كلّ يوم؟ ماذا فقدتُ؟ وحنيني لِمن؟ روحي مضطربةٌ دائمًا.
كيف قلتَ، يا رب، في كتابك العزيز: (يريد الله بكم اليسر) وقد بحثتُ عنه طويلًا ولم أجده؟ هل بموتي تكون راحتي؟ لماذا أتوق إليه بشدّة؟ أحنّ لدياري، فأين الديار؟
أهو منزل والدي؟ أم هو بيت عائلتي الصغيرة لاحقًا؟ أهو مكانٌ أزوره فتستقرّ نفسي مؤقتًا، ثم أعود لتعود هواجسي ويعود اضطرابي؟ من أنا؟ وإلى أين أنتمي؟ أين هي الديار؟ وأين هو الوطن؟
قال تعالى: (أوَلَمْ يرَ الإنسانُ أنّا خلقناه من نطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبين)،
وقال أيضًا: (أولا يذكرُ الإنسانُ أنّا خلقناه من قبلُ ولم يكُ شيئًا).
ما الذي يذكره ابن آدم؟ وماذا نسي؟ كيف يذكر عملية خلقه إذا لم يكن شاهدًا عليها؟
ما الذي رأيناه وعلِمناه، لكننا نسيناه؟ كم مرّةً ذكر الجبار في كتابه: "أفلا يتذكرون"، "إنما يتذكر أولوا الألباب"؟
ما هي الحُجُب التي تُزال عن بصيرة ابن آدم وبصره ليرى الحقيقة؟، قال تعالى: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).
تُزال الحجب، فيرى ابن آدم... ماذا يرى؟
يرى شيئًا أمامه طوال الوقت، لأن الآية أرجعت الغطاء إلى البصر، أي إنّ ما يُبصر ويُرى موجودٌ أساسًا، ولكن لا يُدركه البصر إلا إذا كشف الله عنه الغطاء...
حنيني المستمر، لوعة الغربة التي تلوي جزيئات قلبي حزنًا... أتُراني أحنّ لمكانٍ كنتُ به؟ لشعورٍ أحاط بي سابقًا؟ لديارٍ كانت تضمني؟ تئنّ روحي بشكلٍ مستمر، وأخيرًا وجدتني أهدأ وأستقرّ بقربك، بقربك وذكرك فقط.
لا أرض هي ديار، ولا أي مكان هو وطن. مهما تبدّلت الأرض التي أكون عليها، أو المكان الذي أنا به ويحتويني، غير مهم أبدًا... أنت الديار، وأنت الوطن.
أبصرتُ أني أحمل الوطن ولا يحملني، أنا أُمهّد الديار لتكون ديارًا، فأبنيها بك...
دواؤك فيك وما تُبصرُ
وداؤك منك وما تشعرُ
أتزعم أنك جرمٌ صغيرٌ
وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ
فأنت الكتابُ المبينُ الذي
بأحرفه يظهرُ المُضمَرُ
وما حاجَةٌ لك من خارجٍ
وفِكرك فيك وما تُصدرُ
أمير المؤمنين (عليه السلام).
يا حبيبي، يا رب العزّة والجلالة... إذا سكنت نفسي أزهرت، وشيدت دعائمها، لأعيش ضمن روحي التي بين جنبيّ ونفسي، فلا تهزّني أيّ ريح، ولا تقطع طريقي أيّ رغبة، لأن دياري وموطني هي نفسي.
فألوذ إلى نفسي دائمًا، وأعتني بدياري، أشيدها على الصدق والتقوى. قال تعالى: (يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات، وبرزوا لله الواحد القهّار).
مهما تتبدّل الأرض وتتغيّر، وتشقّ السماء، وتنفطر، وتُغلَق الأرض على جسدي البالي، ويُنثَر التراب عليّ لتُطوى صفحتي في هذا العالم...
لا أكترث، ولا أُبالي... ربِّ، أنت دياري وموطني، أنت مصدر الروح والنور الأعظم، فماذا فقدتُ وقد وجدتك؟ وماذا وجدتُ لو كنتُ فقدتك؟ أنت كل شيء.
سلام الله على عليّ أمير المؤمنين، عُرف بمهابته وإقدامه وبسالته عند إقدامه على الحرب، فعُرف عنه أنه يقاتل قتال من عاف الحياة، وليس لديه ما يخسره.
كمن رفض حياةً عابرة، واتّجه يُلقي بنفسه ويخوض بما يأمره به معشوقه ودياره الذي منه روحه... فالروحُ تعلم... وتحنّ للمصدر.
ألم يقل عزّ وجلّ في كتابه الكريم: (فنفخنا فيه من روحنا)؟
أوليست الروح امتدادًا لذات الله؟ أوليست الروح هي من عند الله، وهي من ذاته الحقيقية؟
هل شعر الحسين (عليه السلام) بالغربة عندما خرج من أراضي مكة المباركة إلى أرضٍ قاحلة، كان يعلم يقينًا أنه ملاقٍ حتفه فيها، وأنّ نساءه تُسلب وتُظلم وتُساق إلى مجلس الظالمين؟
فماذا كان جواب الحسين؟ ما كان جوابه إلا أن قال:
"إلهي، تركتُ الخلقَ طرًّا في هواك، وأيتمتُ العيالَ لكي أراك، فلو قطّعتني بالحبِّ إربًا، لما مالَ الفؤادُ إلى سواك".
إذا هامَت الروحُ بخالقها، وذابت عشقًا، لا يرى الفردُ أي شيء سواه ، لا .ألم يشعر به، لا شيء يأخذ مجامع قلبه وروحه بهجة أو حزنا، تصبح المشاعر ذات مقاييس محددة لا تتعداها أبدا، فالذي علم ورأى ليس كمن هو مغشي على عينه..
هل تعتقد عزيزي القاريء أن الحسين (عليه السلام) لا يستطيع أن يدعو ربه ليرزقه المدد للنصر، أن يعطيه شربة من ماء فيسقي عياله، أن يناجي الله عز وجل ليجد نفسه في جنات النعيم، بلى وربي والله على ذلك لقدير، ولكن الحسين (عليه السلام) روح عظيمة تجلى بها عشق الله عز وجل فدفع بنفسه وأهله وأطفاله وجميع أصحابه ومن تبعه ليجيب ما أراده الله ، إبراهيم (عليه السلام) قال لولده اني أرى في المنام اني اذبحك فهم بذبح ولده طاعة لما يأمره الله به.
إذا أرادت النفس أن تتبع الخطى يرزقها الله الهدى لتبصر وتسمع وتشعر بكل مايحيط بشكل آخر تتجلى فيه عظمة الخالق واحاطته بعباده.
اضافةتعليق
التعليقات