بخطوات ثقيلة تئن تحت وطأة الحزن، وترتجف بسبب حاجة لا تروى، كنت أسير في زحام الأرواح وكل منهم يحمل شوقا يأخذه نحو هدفه، جميعنا جرفتنا رياح الشوق نفسه لكنني كنت تائهة اكثر من غيري أبحث عن شيء لا أستطيع رؤيته إلا في أعماق قلبي، ولم تكن قدماي وحدهما اللتين تحملانني بل كان قلبي يسبقني بكل قوته، يطوي المسافات الطويلة، يعبر الزمان والمكان ليهبط عند العتبة الطاهرة كطفلٍ ضائع يجد مأواه بين ذراعي الأم الحانية في تلك اللحظات الهادئة حين يسكن كل شيء حولك ويلتقي الإنسان بذاته الحقيقية بعيداً عن أصوات التشتت والضغوط اليومية ويتسلل إلى القلب شعورٌ عميق بأن هذا العالم بكل مشاكله ليس إلا لحظات عابرة.
ويعرف الزائر هناك كيف يمكن أن تكون الراحة النفسية، وكيف يمكن للروح أن تجد ملاذها حيث يطغى الصمت على الكلمات وتتفتح أبواب التواصل الروحي هنا بحضرة حضور غير مرئي، شعورٌ بالاتصال مع ما هو أبعد من الذات حيث تمتزج المشاعر بين الحب والرجاء ويصبح الكون كله مصدر إشراق.
والأجمل من ذلك أن هذه الأماكن تصبح ملتقى للقلوب التي تتشابه في أسمى آمالها وأعمق أمنياتها رغم اختلاف الألوان والأعمار واللغات، يتوحد الجميع في نفس النبض الروحي، بنفس الألم، بنفس الرجاء، بنفس التسليم، وكأنما هذه اللحظات تؤكد أن الإنسان هو جزء من كائن أكبر متصل بكل ما حوله من البشر والكون فالأماكن المقدسة هي أكثر من مجرد رحلة مكانية إنها رحلة قلبية وعقلية وروحية تحمل في طياتها فرصة للنمو الشخصي والتجديد الداخلي، هي دعوة للتواصل مع الروح ولإيجاد السلام في وسط العالم المليء بالفوضى، فنظرت بعينين مغمورتين بالدمع إلى القباب الذهبية التي تألقت في السماء وحين وقع بصري على ضريح أبي الفضل، شعرت بشعور غريب لا أستطيع تفسيره، مزيج من الارتياح العميق والألم الملتبس، من السكينة التي توازي الأوجاع، وكأن قلبي كان متعلقا بتلك الأرض منذ الأزل، ينتظر هذه اللحظة التي تشبه لحظة لقاءٍ مع روحٍ تعيش داخلي، لم أكن وحدي هناك، بل كان كل ما فيَ يرتجف بحبٍ وتلهف.
وعندما لامست جبهتي الارض عند العتبة، شعرت أن دعائي ينبعث من أعماق الروح، كأنها أسرار مكبوتة تخرج فجأة، تتدفق عبر دموع كانت تحمل معها كل الآهات التي اختزنها الزمان، كانت لحظةً من النقاء، حيث تذوب فيها العثرات وتُجاب الدعوات كنت أعلم في تلك اللحظة أن هذا اللقاء لا يشبه أي لقاء، فهو لقاء الروح بمصدر النور، لحظةً تذوب فيها كل الفواصل بين العبد وربه.
العباس بن علي (عليه السلام)، ذلك الذي بزغ نوره من بيت الطهر والشرف، وكان منذ لحظة ولادته، معجزة إنسانية، ورمزًا للفداء والتضحية، تذكرت حديث ولادته وكيف كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يحمل بين ذراعيه هذا الطفل الذي لا يشبه غيره، وكيف كانت أعين الطهر تتنبأ بأنه سيكون السند الذي لا يلين، والفارس الذي لا يخذل، واليد التي لا تعرف التراجع تمنيت لو كنتُ مثله، لو أنني أستطيع أن أعيش ولو لحظةً واحدة بقبس من صفاته من تلك اللحظات التي كانت مليئة بالعطاء، ثم شعرت بشيءٍ لا أستطيع التعبير عنه نظرت حولي فإذا بالروضة تفيض بأريج المحبة، والمحبون قد أضاءوا المكان بقلوبهم، وقلبي معهم يرفرف بين الفرح والدمع، بين الذكرى واللوعة، كان الضريح أمامي وأنا لا أستطيع إلا أن أمد يدي نحو الشباك المقدس، همستُ: "يا أبا الفضل، سيدي كيف لا نحبك وأنت من رسمت درب التضحية بدمك الطاهر، كيف لا نهتف باسمك وأنت أعظم راية ترفعها الأرواح، كيف لا ينبض القلب باسمك وأنت في كل نبضةٍ تشعرني بأنك هنا، في كل لحظة، في كل مكان، كيف أصف نبضاً لا تراه العين، كيف أشرح هذا الارتباط الروحي الذي يملأني حتى أنه يشعرني بأنك في كل شيء حولي.
هو وفاء لدمك الطاهر، أم أن حبك قد سكن الروح منذ أن كانت الحياة، ففي كل مرة أرفع يدي إليك أرى أنك هناك في تلك اللحظة التي يتوحد فيها الألم بالرجاء، وأفهم أنني لا أحتاج إلى تفسير لهذا الحب فهو نابع من أعماق القلب، من جرحٍ لا يندمل، ومن أملٍ لا يموت، و في أعماق روحي نبضٌ لا ينتهي لا يعترف بمكانٍ أو زمان ولا يفنى، حبٌ لا يقيدني بأي سببٍ ظاهر بل ارتسم في نفسي من لحظة ولادتي وسكن في قلبي منذ الأزل.
فكلما ناديتك كنت تجيبني ، فيا سيدي هو عهدٌ مني أبدي يحمل في طياته وعدا بألا أتوقف عن السير في درب الوفاء، بأن أحمل في قلبي شيئًا منك، شيئًا من عطاءك، شيئًا من كرامتك، شيئًا من نورك الذي لا ينطفئ، ذلك النور الذي أضاء في تلك الليلة، وسيظل يضيء دروب العاشقين إلى الأبد، فهنيئا لمن يستذكر مآثر هذا البطل العظيم، ويمضي على دربه في نصرة الحق والولاء لأهل البيت (عليهم السلام).
اضافةتعليق
التعليقات