النهضة الحسينية المقدسة التي قادها الامام الحسين (عليه السلام) هي ثورة في التفكير لتحريك المجتمع الجامد أو الراكد واخراجه من حالة الشلل الفكري وانتشاله من العجز عبر التفكير المتحرك أو تحريك الفكر، فحركة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت ثورة وحركة في مواجهة ذلك النمط من التفكير السائد المتخلف المادي الاستسلامي والذي يريد ايقاف التاريخ وتجميد الزمن وعرقلة عجلة التقدم.
ولكن هل يكفي أن نقول أن نهضة الامام الحسين (عليه السلام) كانت نهضة فكرية، البعض يقول كانت فيها رسائل سياسية واجتماعية وأخلاقية، وهذا أمر صحيح، ولكن كل هذه الرسائل تستند على الأفكار، الأفكار هي التي تحرك المجتمع والانسان، لذلك نقول كانت ثورة الامام الحسين (عليه السلام) ثورة فكرية، لأنها كانت في النتيجة تؤدي إلى ثورة اجتماعية وسياسية وأخلاقية، وكل أنواع التغيير تأتي من خلال ثورة الأفكار أو الثورة ضد الأفكار السائدة.
الانسان بطبيعته هو كائن يعيش على التفكير لأنه عاقل، ولأنه عاقل فهو خطأ غير مفكر، فكل ما يفعله هو مسؤول عن أفعاله وأعماله وسلوكه، لأنه خرج من طيات أفكاره، كذلك فإنّ الانسان الغرائزي المنفعل هو انسان انفعالي لم يفكر، بل دفعته غرائزه لكي يسلك هذا الطريق، بينما الانسان المفكر ناضج دفعته أفكاره لاتخاذ القرار المناسب، فكل ما يفعله الانسان يخرج من أفكاره أو من غير أفكاره أي لا يفكر، فأي أحد منا يعمل عمل ما أو يسلك سلوكاً فإن عمله هذا يأتي عبر لا وعي فهناك فكرة معينة في داخله وفي أعماقه هي التي جعلته يسير بهذا الطريق، أو يخرج منه هذا السلوك، فكل الأشياء الانسانية والمجتمعية قائمة على بنى فكرية واختلاف المجتمعات بسلوكياتها وطرقها وحياتها ومعايشها لأنها تختلف في البنى في رأس المال البشري الفكرية التي تقوم عليها .
وسلوكيات الانسان والمجتمع بشكل عام تظهر من خلال البنى الفكرية التي يعيش عليها، فالإنسان كل ما يفعله في أي تحرك جوهري لابد أن يحمل نمطاً فكرياً، لأن كل أنماط السلوك والتشكّل السياسي أو الإجتماعي أو الأخلاقي تعتمد على بنى فكرية أو منظومة أفكار تشكل العقل العملي للإنسان.
فالإنسان الذي يقبل أن يحكمه الدكتاتور لا يحب أن يعيش تحت ظل الحرية لأنه يعتبر أن الحرية فوضى والإستبداد أمن بالنسبة له، هذا الشخص ليس لأنه يبحث عن الأمن والاستقرار وإنما قد استحكمت به عقيدة الاستبداد فأصبحت فيه بنية تحتية مترسخة.
يقال إن بعض الطيور التي تعيش أو تعلّمت أن تعيش حرة في الطبيعة، إذا أمسك بها ووضعت في أقفاص تنتحر في أقفاصها، لذلك هؤلاء الذين يريدون أن يجعلوا الطيور مدجنة، يجعلونها منذ صغرها في أقفاص فتتعلم على الأسر، وهكذا فإن العبودية والحرية تعليم وتربية وانغراس عميق للإنسان في عقيدته.
ونلاحظ ذلك أيضا في الشخص المتلون الذي يحاول أن ينتهز الفرص دون أن يكون هناك رادع أخلاقي أو ديني أو إنساني، أمامه، وعندما تسأله لماذا تفعل ذلك يقول:
(الغاية تبرر الوسيلة)
(إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب)
(لا أستطيع العيش إن لم أكن ذئبا، لأن الذئاب تأكلني).
فهذا نمط من التفكير يسود بالمفاهيم التي تتحول إلى تقاليد راسخة في الذهن الشعبي. وأحد أسباب التخلف، هو بعض الأمثال الشعبية التي يستعملها الناس، هي في الواقع بنى فكرية تحرك السلوك، فالإنسان يتحرك على ضوء هذا المثل الشعبي الذي انغرس في داخله منذ الصغر، فيصبح سلوكاً عاماً له، فإن من يستخدم تلك الأمثال، يستخدمها لتبرير سلوكه أو تحليل قضية أو إفهام حالة معينة.
المجتمعات تحب أن تتجمد ولا تتحرك نحو المستقبل، خوفاً ورعباً من فقدان المصالح والامتيازات، وحفاظاً على وتيرة حياتها، لأنها تعتبر التحرك نحو التقدم قد يزعزع مكاسبها، وهذا يكشف عن فقدانها للإيمان واستكانتها للقدر، لذلك تصنع المجتمعات الراكدة أصنامها لتبرر لها الركود والتخلف والتخلي عن جوهر الوجود الانساني الموجود في أعماق الفطرة.
فنوعية الأفكار وأسلوب التفكير هو الذي يتحكم بحركة الانسان والمجتمع، لذلك كانت بعثة الأنبياء ومنهجية الأئمة ( عليهم السلام) هي إثارة التفكير وتغيير المجتمعات الراكدة بإثارة التفكير الحر وتذكيرهم بهدفية الانسان ودوره الجوهري في الحياة، وقد قال الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة:
(فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَيَحْتَجُوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُول).
فكانت حركة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) هي حركة ضد الأفكار النمطية السائدة التي تجعل المجتمع متخلفاً، راكداً، نائماً، جامداً، وكانوا يريدون تذكير الناس بهدفية الحياة وميثاق الله الذي عقده مع البشر، ويذكروهم بالنعم، وبدور العقل الذي هو حجة على الناس، فهي حركة لدفع أفكار الانسان نحو المستقبل.
يجب أن نستكشف عناصر الثورة الفكرية في النهضة الحسينية، وماذا أرادت أن تقدم لنا من أفكار نمارسها في عمليات التصحيح والإصلاح.
فما هي الرسالة الفكرية في نهضة الامام الحسين عليه السلام؟
۱. مواجهة الإذلال
ومواجهة ثقافة الخضوع التي يعيشها المجتمع، ومعالجة التفكير الجبري والانعزالي والعدمي، فالمجتمع عندما يكون لديه هذه الأنواع من التفكير يكون خاضعاً وذليلاً، وأسوأ شيء عند الانسان هو الذل والخضوع، وهو أسوأ من الفقر والموت.
الله سبحانه وتعالى خلق الانسان كريماً والكرامة أهم نقطة في كون الانسان انساناً، لذلك الامام الحسين (عليه السلام) أراد أن يواجه العنف والاستبداد والعبودية للطاغوت وبنو أمية أرادوا إذلال المسلمين، عبد الملك بن مروان كان يقول: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه .
فبنوا حكمهم على السيف، لكن نهضة الامام الحسين (عليه السلام) جاءت لتنسف تلك الثقافة، ثقافة السيف العنف الاستبداد، إذلال الانسان، هذا صراع بين ثقافتين، اليوم العالم يعيش هذه الثقافتين، ثقافة قوة المنطق، ومنطق القوة.
فسيرة الامام الحسين والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) قائمة على قوة المنطق، بينما سيرة الطغاة والمستبدين والمنحرفين تقوم على منطق القوة والقسوة والعنف واستعباد البشر.
۲. تحمل المسؤولية والوظيفة الشرعية
الانسان كائن مفكر مسؤول فلابد من أن يتحمل المسؤولية، لا أن يعيش في الحياة برغباته الخاصة، هو انسان مسؤول لذلك هناك حساب وكتاب وثواب وعقاب في الدنيا والآخرة، ومن هذا المنطلق يخاطب الامام الحسين (عليه السلام) الناس بلغة عميقة متبصرة:
(أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ لِيَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ الله محق ).
هذا هو معنى المسؤولية الشرعية، حيث يرسخ الإنسان في داخله فكرة المسؤولية ومسؤولية التفكير، حتى يستطيع أن يعمل بوظيفته الشرعية ويعمل مع الحق ولا يستسلم للباطل ولا يذل تحت حكم الباطل.
بناء الانسان العاقل المفكر :
يقول الامام (عليه السلام): ((إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ وَكُنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْمَعَادَ فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُم)) أي لكي تكون انساناً لابد أن تكون حراً ولكي تكون حراً لا بد أن تكون مفكراً، هذا يحرض الناس على التفكير، فمن خلال التفكير يصل الانسان إلى هذه النتيجة وهي الحرية.
فالإنسان بحد ذاته، وبفطرته يحتاج لأن يكون حراً، وهذا يقوده للإحساس بيوم المعاد ونحو الايمان بالدين.
اضافةتعليق
التعليقات