كُلما ذُكر اسم الوطن تعودُ الجِراح لتتفتق، وتمتلئ الأحداق بالندى. ننسى حينها كل شيء، ففي حضرةِ الوطن، يصمتُ الكون، وتَخْرسُ جميع الموجودات ولا يبقى غير صوت نبضٍ دافئ ومشاعرٌ فيّاضةٌ كنهرٍ من حنين، وكما قالها محمود درويش: "الوطن هو أن أحتسي قهوة أُمي، هو أن أعودُ آمنا مع المساءْ".
فمالنا نُضيّع الوطن لنتوهُ بعده بلا بوصلةِ سلام أو جهاتٍ أربع، لمَ أمسينا نتقاسمه كثمرةِ برتقال وهو لا يُريد منا إلا أن نكون شجرة واحدة جُذورها في الأرض مُتشعبة وفروعها في عِنان السماء. لا يُريد منا إلا أن نكون متشبثين به، ولا نبيعه بثمنٍ بخس في المزادات الدولية، بعد أن كان دفأنا في مهدِنا، وتهويدةً اعتدنا أن نغفو على أنغامها، والضوء الذي لطالما آمنا أنه سيبزغُ في نهاية النفق.
فكيف يهون علينا أن ننكث بوعدنا له، عهدنا الروحي بأنه سيظل أباً لنا وإننا سنظل أبناءه البارين به، كيف نرمي بعهدنا عرض الجدار ونمضي غير مبالين إلا بأنفسنا..؟ كيف طغت علينا تلك الأنانية الجارفة واللاإنسانية المُخيفة، فأمسينا لا نُفرّق بين حبٍ وبُغض، أو حقٌ وباطل، أصبحنا نعيشُ فقط لكي نحيا، وننتظرُ الغد فقط لكي ينقضي، كما ينقضي اليوم.
أصبحت قضية الوطن بالنسبة لنا قضية خاسرة وتجارة مصيرها الحتمي هو الإبادة والكساد، بات الوطن اليوم ليس سوى كلام أجداد نسمعه منهم، وكلمات منقوشة على كتاب قديم مهترئ لا يقلّب صفحاته أحد. لم يعد الوطن كما كان، قهوةٌ صباحية، أشجارُ ليمون وسدر، أزهارُ سوسنٍ ونرجس، سماءٌ طاهرة زرقاء وبعضٌ من نسيمٍ ربيعي. بل أصبح فيلماً قد سئمنا مشاهدته. إن أرضنا لتتألم حين ترى الكُره في قلوبنا عامر والحقد في بيوتِنا حاضر. هذهِ الأرض برمالها الطاهرة، لا تتربص منا إلا صحوةً لضمائرنا وإشراقة للشمس في أرواحنا، تريدُ منا أن نقف متأهبين لنقول لها (نحن لكِ، وسنحييك)، لا لكي نموت وتمتزج دمائنا بثراها، بل لكي نحيا ونُحييها، ونُعيد ذكراها ونُوقد فيها قناديلًا من أمل.
يقول الشاعر أحمد مَطر:
"نموتُ كي يحيا الوطن؛
يحيا لمن!
من بعدنا يبقى التُراب والعفن،
نحن الوطن
من بعدنا تبقى الدواب والدمن
نحن الوطن !
إن لم يكن بنا كريماً آمناً
ولم يكن محترماً
ولم يكن حُراً
فلا عشنا..
ولا عاش الوطن!"
نعم نحن الوطن ونحن من يجب أن نُعيد له بسمة فقدها، لا نُريد أن نُجرب كل الاعتصامات، نريدُ اعتصاماً واحداً فقط: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)).
اضافةتعليق
التعليقات