عندما نشعر بالملل، أو نشعر بأن ما نحن بصدد فعله أمر صعب، فمن السهل جدا أن نتشتت، لكننا ندرك أيضًا أن التشتت يُولّد التشتت، لذا إذا تمكنا من تجنبه ، فسنتمكن من التركيز على المهمة التي بين أيدينا.
هل تعرف شخصا ما يفعل الأمور التالية: يضغط زر حاسوبه وبحركة تلقائية تتحرك يده لتفتح متصفح الإنترنت، ويقول لنفسه: «سأقضي ربع ساعة فقط لا غير، إلا إن ربع الساعة تلك تمتد لتستمر طوال اليوم، ويضيع يومه كاملا، متنقلاً من رابط إلى ثانٍ إلى ثالث؟ هذا الفعل يُشعره بوجود وفرة من المعلومات، لكن هل تلك المعلومات تفيده حقًّا؟ غالبًا لا ، فهو لا يكلف نفسه عناء قراءة الصفحات أساساً، ولا التفكير فيها إن قرأها، بل مجرد نظرات سريعة بلا صبر ومع نهاية اليوم يكون قد استنفد طاقته بالكامل بلا فائدة.
في الماضي، كان الناس يستيقظون على صوت العصافير، أما الآن فيستيقظون على أصوات إشعارات التنبيه.
نحن متصلون بكثير من الأسلاك لو أردنا وصف ما نعيشه في أيامنا هذه، فسيكون «عصر الأسلاك»، إذ إننا متصلون بكثير من الأسلاك، أسلاك تخرج من جيوبنا، من حقائبنا، من كل مكان في العمل، في الشارع، في القطار، في البيت أصبحنا نعيش في عالم جديد، عالم رقمي، واختطفنا من عالمنا الحقيقي.
بسبب عصر الأسلاك الذي نعيش فيه، خسرنا أو تغيرنا من جوانب كثيرة. فتخيل أنك تقوم بعمل ما، وهذا العمل يحتاج إلى التركيز، لكنني كل بضع دقائق أطلب منك أمراً ما، أو أنادي عليك، أو أقاطعك، أو أصرخ بالقرب منك لو فعلت ذلك مرة كل ربع ساعة، فستجد أن كفاءة أدائك قد نقصت، ومقاطعتي لك أيضا ستجعلك تشعر بالعصبية والضغط وعدم الرضا، وهذا شبيه بما يحدث على الإنترنت.
بينما تجلس لتؤدي عملك يقاطعك إشعار لبريد إلكتروني عن شحن منتج كنت قد اشتريته، فتدخل إلى موقعه لتتبع الشحنة، ثم تعود لتكمل عملك، فتجد شخصًا يتصل بك على «سكايب» فتجيبه، وبعد قليل تصلك رسالة نصية قصيرة ترد على مرسلها ثم بعد بضع دقائق تقابل شيئًا لا تعرفه في عملك فتبحث عنه على محرك البحث «جوجل»، وتظهر لك صفحة مليئة بالروابط فتتنقل من رابط إلى ثانٍ إلى ثالث، وفي النهاية تجد نفسك تتابع فيديو ليس له أي علاقة بموضوعك الأصلي.
بالطبع، كل هذا التشتت الذي يحدث يؤثر سلباً في عملك، لكن لماذا تتسامح معه ولا تجد مشكلة في التعرض له؟ لأنك تخدع نفسك.
فأداء عدة أمور في الوقت نفسه خدعة نمارسها على أنفسنا، بحيث نعتقد أننا بذلك سننجز كثيراً من الأمور، لكن في حقيقة الأمر إنتاجيتنا تقل، وسرعتنا تتباطأ، ونصاب بالكسل.
التشتت الرقمي لا يؤثر في قدراتنا الإنتاجية فحسب، بل يؤثر في علاقتنا وصحتنا أيضا، ويؤثر أيضاً في شيء مهم جدا لم نعد نقوم به، ألا وهو الاختلاء بالذات.
جرب أن تجلس بمفردك عندما لا يكون لديك أي عمل تقوم به، ستجد نفسك تسرع لالتقاط هاتفك وتفتح أي تطبيق أو موقع لتشعر بالتسلية.
نحن لم نعد نجلس بمفردنا، بل نُسرع لاستخدام الإنترنت، ونحوّل اهتمامنا عن الموقف الممل، وذلك يجعلنا نخسر الاختلاء بالذات الذي هو بالطبع صعب وممل، لكنه مهم، لأنه يوفر مساحة للإبداع والانشغال في أفكار جديدة، ويوفر لنا مساحة للإحساس بالهدوء كل ذلك للأسف لم يعد موجوداً، الحياة داخل صندوق أسود صغير غالباً ما يبدأ التشتت الرقمي بحسن نية، وحسن النية هذا يُدخلنا في سلوك تفقد إجباري.
عند استيقاظك في الصباح تتفقد حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي كي تتابع ما حدث في أثناء نومك، فتجد شخصا أرسل إليك رسالة، تفتحها، وفتحك للرسالة هذا سيجعلك تنحبس داخل صندوق الرسائل الواردة ولا تستطيع الخروج منه، تشعر بأنه يجب عليك أن ترد، وتشعر بالقلق حيال ذلك، وترد كي تتخلص وتدور في الدائرة من القلق، وفور أن ترد سيبدأ تدفق غير منته من الرسائل بينكما، إذا سمحت للرسائل أن تجبرك على الرد فور وصولها، فالحاجة إلى الرد ستتحكم فيك، وستصبح تصرفاتك حينها قائمة على الاستجابة للآخرين، وستنتهي من تحكم لتدخل في الثاني، وهكذا إلى ما لا نهاية!
ألاعيب العقل
نحن نخدع أنفسنا هناك جانب نفسي يؤدي دوراً كبيراً فى دفعنا إلى التشتت الرقمي، فالتواصل الرقمي بشكله الذى تقوم به يجعلك تشعر بأشياء كثيرة تحتاج إليها: أنك مهم، أو أن الآخرين يحتاجون إليك، أو تشعر بالانشغال ولن تحتاج إلى أن تواجه الفراغ الموجود في حياتك.
نحن البشر نحب أن ننظر عبر النوافذ والإنترنت نحب ان يقدم لنا نافذة نستطيع من خلالها النظر إلى حياة الآخرين في أي يوم نشاء ننظر إلى الناس، ونقيم ونحكم.
ونحن البشر نخاف من أن يفوتنا شيء ما، هذا الخوف يؤدي دوراً كبيراً في جعلنا متأهبين ومتابعين طوال الوقت تحسباً لحدوث أي شيء.
إذا أردت أن تبدأ تطهيرا تكنولوجيا، فما الذي يجب عليك فعله؟
دعنا نبدأ بحقيقة أن ذلك ليس بالأمر السهل، فتخيل أنك في شارع فيه خمسمائة شخص يسيرون في اتجاه واحد، وأنت تحاول السير في عكس اتجاههم، هذا سيحتاج إلى مجهود كبير منك لأنهم سيدفعونك، والتيار سيحاول أن يعكس اتجاهك.
الخمسمائة جميعهم يتفقدون مواقع التواصل خمسين مرة في اليوم، فعندما يرسلون إليك شيئاً ما وأنت لا ترد في اللحظة نفسها أو تخبرهم بأنك تفتح الموقع مرة كل ثلاثة أيام، توقع أنهم سينظرون إليك باستغراب، ولا تتوقع احترام رغبتك تلك، خصوصا في البداية.
إيقاف جميع المشتتات الرقمية
لا تترك الأجهزة بالقرب منك وتقول لنفسك سأتجاهل التنبيهات ولن أرد، بل أوقفها.
على الرغم من قوة الإرادة التي تمتلكها في الأوقات العادية، فإنك إذا راقبت قوة إرادتك في أوقات الملل فستجد أنها تضعف كثيرا في يومك العادي ستتعرض للملل، وما دمت تتعرض للملل سيكون من السهل تشتيتك، وسيكون من الصعب عليك مقاومة بـ الإغراء الناتج عن تنبيه جديد لذلك، فالأسلم أن توقف تنبيهات هاتفك في الأوقات غير المناسبة لك للتواصل، والتي لا ترغب في استخدام الإنترنت فيها، ولا تكتف بتجاهلها.
اضافةتعليق
التعليقات