نعتقد عادةً أنّ "الحب الكبير" هو أمر محمود، وهو ما يسمى "بالحب الحقيقي". لكنه الشيطان يدس لنا السم من خلاله. نحن البشر عندما نحب أحداً حباً كبيراً "نتعلق" به، نحب أن نكون بجواره غالباً، وعندما يغيب نشعر بوحدة ووحشة، ولا نستمتع كثيراً بوقتنا من دونه. ونخاف كثيراً من فقدانه ونقلق بشكل إفراطي عليه. الحب هو أمر إلهي ومحمود في ديننا، لكن هكذا حب ليس حباً سليماً، ليس حباً يرضاه الله لنا .
هذا الحب هو حب سام، لأنه فيه "تعلق" لشخص أو لشيء "لا كمال فيه" .
وفي علم النفس يذكر أنّ "التعلق" يفسد جاذبيتنا بشكل كبير عند الطرف الآخر، إذ يقودنا إلى الأسر العاطفي، فنصبح عاطفيين كالعبيد لهذا الشخص .
أقول كلمة "العبيد" لأننا عندما نتعلق نعطي زمام مشاعرنا وحالاتنا النفسية والمزاجية كلها بيده، فمن الطبيعي سنجعله المسيطر والمتحكم الرئيسي فينا .
الحب الذي ليس في مرضاة الله يكون معه شعور التعلق، يعني أن تتعلق بشخص وتخسر استقلاليتك الشخصية، تخسر عزة نفسك. تربط سعادتك وشعورك الجيد فقط بهذا الشخص، ولا تعرف كيف تستمتع بوقتك ووحدتك من دونه ومن دون ذكره. أنت بهذا التعلق تعطيه رسالة غير مباشرة بأنك لا شيء من دونه، لست ذو قيمة، وأنه هو فقط الشخص المهم، وهو الذي ليس له مثيل، وحياتك كلها واقفة عليه، لهذا أنت متعلق به .
فترى مع مرور الأيام يبرد وينفر منك شيئاً فشيئاً، إما سيبتعد عنك عاطفياً ويبقى كالجسد الميت بجوارك، أو يبتعد جسدياً وعاطفياً . بالتالي ستخسره وتخسر هذه العلاقة التي كانت قيّمة لكما .
التعلق ممكن أن يكون مع الآباء والأبناء، مع الأصدقاء، أو مع الزوجين .
التعلق سام بجميع أنواعه، خاصة مع شريك الحياة، فإنك إن تعلقت بالشريك ومسكته عاطفياً بقوة وتحكمت فيه ولصقت به، سيموت الحب الذي بينكما بالتدريج . لكن، بالمقابل إن أفلته بشكل كامل، أي إذا كنت بارداً ولا أُباليّاً معه، أيضاً ستنطفئ شعلة الحب بينكما، إذن "فخير الأمور أوسطها" (الإمام الكاظم عليه السلام) . البحار : ٧٤/٣٦٠ / ٤و٧٦ / ٢٩٢ / ١٦ .
التعلق في بداية الأمر يكون لطيفاً وممتعاً، لكن بعدها سيأتي معه مجموعة من التصرفات المنفرة التي ستجعل الطرف الآخر يبرد وينفر بشدة .
من التصرفات المنفرة لتي يولّدها "التعلق":
١-حب الانتقاد بكثرة من الطرف الآخر، فلأننا نحبه بشكل كبير ومتعلقين به فإننا سننتقده كثيراً وسنجعل منظارا مكبّرا على تصرفاته . النقد جداً مهم لكن ينبغي أن يكون قليلاً، وبنّاءً وفي البداية الأمر أن يأتي مع تحسين الصفات الإيجابية التي يملكها الطرف الآخر. أي يكون على الأمور الكبيرة والمهمة فقط، وأن نتغاضى على صغيرها. لأن النقد عندما يزداد سيشعر الطرف الآخر بعدم ارتياح معنا وسيشعر أنه لا يرضينا مهما فعل لنا، وأنه شخص لديه الكثير من العيوب، وهذا وحده كفيل بأن لا يرتاح ولا يشعر بشعور جيد بجوارنا.
عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): "كثرة النصح تدعو إلى التهمة"، مستدرك سفينة البحار، ج١٠، الصفحة ٦٣.
صحيح إنّ النصيحة جداً ضرورية ومهمة، ولكن أن لا تكون بكثرة .
ملاحظة: الأمر ليس مجرد تعليق سلبي أو سخيف يتلقاه شريك حياتك ويمر، فالانتقاد هو السلوك الأكثر تدميراً للعلاقات طبعاً ضمن أربعة أنماط اتصال سلبية شائعة حددها الطبيب النفسي الأميركي الشهير جون غوتمان، وأسماها الفرسان الأربعة لتحطيم العلاقات. وهي: - النقد (الانتقاد المدمر)، - الإهانة (السخرية منه واستصغاره)، - الدفاعية (الدفاع عن النفس بشكل دائم وعدم فهمه)، - المماطلة والتسويف في حقوق الشريك .
٢- حب التحكّم والسيطرة على الآخر، عندما نتعلّق، بشكل لا إرادي سنحب أن نملي عليه أفعاله ونتحكم بكثير من تصرفاته وهذا سيشعره بأنه تحت سيطرتنا وأنه طفل وأننا كأمه، فلا أعتقد أنّ هناك أحداً يحب أن تكون لديه أم ثانية تتحكَم به وبكل تصرفاته .
٣- الحساسية والغيرة المفرطة، سيولّد التعلق أيضاً الحساسية المفرطة والغيرة الشديدة، وهذا سيجعلكم "ضعفاء" أمام الشريك، وكأنما تقولون له: "أنا لست جميلة وغير مرغوبة بها، لهذا أغار كثيراً" وهذا الأمر له تأثير سلبي جدا على الطرف الآخر، وبمرور الوقت سيستصغرك .
٤- الكآبة، ستؤخذ حيويتكم وستنفذ طاقتكم، لأنكم صببتموها كلها على شخص أو شيء لا كمال فيه، ستشعرون بالحزن الدائم ولا تعلمون ما بكم، وهذا من شأنه أن يؤدي جسمكم إلى السقم والأمراض المختلفة التي لا نهاية لها .
من الطبيعي أنّ "الحب" الذي لا اعتدال فيه سيولّد "تعلقا" ويؤذيكم. "التعلق" جيد في حالة واحدة فقط، وهو أن يكون للذي يكون "كاملاً" لا نقص فيه .
كالله عز وجل والمعصومين (صلوات الله عليهم)، لكن "الحب" عندما تعطونه للأشخاص الذين لا كمال فيهم، سيمرضكم روحاً وجسماً .
ملاحظة: إذا كان الناس بدلاً من رسم صورة خاصة للآخرين في مخيلتهم، أو جعلهم يقومون بإجبار بأمور هم يريدونها ويحبونها دون الالتفات لمشاعر الطرف المقابل، عوضاً عن ذلك يعطوهم مساحتهم الخاصة ويفهموهم ويحاولون أن يرون الدنيا بمنظار أحبتهم أيضاً فقد تم حل معظم العلاقات الإنسانية على هذا الطريق .
كيف أعرف أنني ابتليت بمرض التعلق؟
قد ذكرنا ما الأمور السامة التي يولدها التعلق. وحدك تعلم ميزان نفسك وتعرف بها مقاديرها وما الإشكالات التي ينبغي إصلاحها، قال تعالى: "بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ"، سورة القيامة، الآية١٤
التعلق بالنعم :
جميع النعم التي نملكها من عافية، أو مال أو جمال أو عائلة حنونة أو ذرية صالحة أو أصدقاء صالحين ووو… كلها رائعة، فالله سبحانه خلقها لأجلنا ووسيلة لسعادتنا في الدنيا، وبذلك أن نعطي كل ذي حقٍ حقه ليشفع لنا في الآخرة ويمسك بيدنا .
عندما نتعلق بالنعم ستذهب عنها البركة أو سترحل عنا بشکل کامل، وذهابها سيصبح مهلك وموجع بشكل لا يوصف، وإن كان الاختبار الإلهي بواحدة منها وكنا متعلقين بها، سنصاب بالكآبة إن فقدناها أو سنخسر ديننا ودنيانا ونسقط في الاختبار الإلهي .
ملاحظة: قد يكون الاختبار الإلهي بالضبط على نقطة ضعفنا، إذن لنعمل على أنفسنا ونصلّح من هذا الضعف ونقوي من أنفسنا لأن لا نُختبر به بإذن الله تعالى .
دائماً نحن السبب في ما يحدث لنا من مشاكل وأمراض، الله سبحانه أعطى لنا النعم لنتلذذ ونسعد وبشكرنا لها تكون لنا ذخر وذخيرة، لكن، لا أن نتعلق ونأسر أنفسنا . فهي ليست دائمية .
عندما تكون لديك القوة وجرأة التحرر من قيد التعلق بالناس أو الأشياء، وقرارك هو عن عدم التعلق بهم بعد الآن، اعلم أنك "منتصر". كما كانت لديك الإمكانية لوقوعك في هذه العبودية والأسر أيضاً لديك القدرة للتحرر والنجاة منها بمدد من الله تعالى وأهل بيت النبوة (سلام الله عليهم).
تذكر، أنّ التعلق هو الذُل بعينه، بشكل عام جميعنا مهمين وجميعنا عزيزين عند الله تعالى "فالخلق كله عياله". وجميعنا مكرّمين على سائر المخلوقات . "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى". لكن، مدى اجتنابك الذنوب وتركك المحرمات، وأيضاً مراعاة المستحبات والمكروهات حسب الوسع والاستطاعة هو الذي يقربك أكثر عند الله تعالى وهو الذي يستثنيك، ويجعلك عبدا ذا قيمة أكثر عنده. أن تكون عزيزاً عند الله هذا هو الفلاح .
الحرية :
هذه الأيام احتياج الناس للحرية هو بمقدار احتياجهم للحب، في العلاقات الزوجية وعلاقة الوالدين بأبنائهم. أغلبنا في الكثير من الأحيان نحاول باسم الحب أن نسيطر على تصرفات من نحبهم، في الواقع هذا في غاية الأنانية، بدلاً من أن نمنحهم الحرية نشعرهم بأننا نملكهم، ونريدهم أن يتصرفوا كما يحلو لنا، بعدها نسأل أنفسنا بتعجب لماذا العلاقة التي كانت تسعدنا قد تغيرت وأصبحنا في أغلب الأحيان في حزن ونزاع . لم تتغير هذه العلاقة بل نحن من تغيرنا، وأصبحنا أنانيين في علاقاتنا ومن الطبيعي أنّ الطرف الآخر سيصاب بالملل من هذه العلاقة، فهم ليسوا عبيداً لنا .
يقول جبران خليل جبران : "أحِب لكن لا تكن أسيراً ومقيداً بالحب، امنحوا أنفسكم أيضاً فرصة لتكونوا بمفردكم، كونوا سوياً.. ولكن لا تلتصقوا ببعضكم البعض" .
كانت هناك امرأة ناجحة وقلقة للغاية على ابنها الكبير، ابنها كان ناجحا أيضاً في عمله لكنه لم يتزوج وكان لا يزال يسكن مع والدته . والدته كانت أرملة وقضت سنين عمرها في تربية ابنها، وفي هذه المرحلة من عمرها كانت تريد أن تسافر بحرية وتعمل حيثما تريد . كانت تتمنى أيضاً أن ترى زواج ابنها وسعادته، كانت تعرف أن هذه الحرية مشروطة بإطلاق سراح الابن وقطع تعلقها العاطفي به .
أحلامها كانت تتحقق تدريجياً، ابنها وجد فتاته المفضلة وخطبها، لكن الأم بدلاً من أن تكون سعيدة بذلك، كانت منزعجة وغاضبة وتنتقد الفتاة باستمرار . لم يمض وقت كثير وسرعان ما مرضت الأم، أخبرها الطبيب أنها مصابة بارتفاع ضغط الدم الذي سببه الأساسي عامل نفسي وأنّ لديها انزعاج خفي .
أدركت الأم أنه للتخلص من مرضها، ولتحصل على حياة سعيدة وسليمة يجب أن تتخلص من تعلقها بابنها وتحرره ليعيش حياته كما يحلو له، أدركت عندما تحرر ابنها يعني أنها تحرر نفسها من الأسر، لهذا ظلت تردد مع نفسها وتدعي كل يوم لفك تعلقها المرضي من ابنها وتكرر مع نفسها عبارات تحفيزية: "إني أحررك وأعطيك الحرية، إني أحررك لتذهب باتجاه سعادتك وصلاحك، وصلاح شخص واحد هو صلاح الجميع"..
لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى اختفى كل انزعاجها واستعادت عافيتها، ابنها أيضاً تزوج وكانت له حياة سعيدة، والأم بدأت تسافر بحرية لبلدان أحبت أن تزورها وتبحث عن وظيفة جديدة، هي استطاعت أن تصنع حياة جديدة، حرة وسعيدة لنفسها، كما كانت تتمناها دائماً .
في "التعلق" أنت تقول للطرف الآخر أنك محتاج له وبدونه سوف تموت .
لكن في "الحب الذي يكون في مرضاة الله" أنت تقول أنا أحبك ولدي شوق لك وسعيد بصحبتك وشعوري معك في الأعالي، وجودك يسعدني ومهم لديّ، لكن في غيابك أيضاً سأكون على ما يرام وأعرف كيف أستمتع في وقتي وأسعد نفسي، لأن معي "الله" .
قال تعالى : " ألَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبدَه" سورة زمر، الآية ٣٦ .
إذن، فأنا المسؤولة الوحيدة عن سعادتي .
يتبع...
اضافةتعليق
التعليقات