بدأ بكاءه، وصراخه يتعالى شيئًا فشيئًا في عمره الثواني ظنَّ من حوله أنّهُ جائع؛ لذا سارعوا إلى لفّه بقطعةٍ بيضاء، وسلّموه إلى أمّه التي وضعته على صدرها الأيسر فسكن، وهدأ روعه وهكذا إبتسموا واثقين من إعتقادهم فقهقه بعضهم فرحًا، وصار الآخر يمازحه بطمعه؛ كونهُ جائعٌ ماصبر، لكن لم يُدركوا عمقَ هذا البكاء؟!
لم يعلموا لم هذا الصراخ المتعالية نبرته؟!
حتّى أنّهم ما إكتشفوا سرَّ الطمأنينة في نبض قلب أمه!... نعم، لقد بكى نفسه في هذه الحياة الفانية... لقد إستوحش رؤيتها فما كان شيء لينجده سوى دموعه مناديًا بها من يسعفه.
إنقضت أيام، وسنون مرّ فيها بعوالمه المختلفة طفولته، صباه، مراهقته، شبابه ... آسرته الحياة في حلوها، ومرها تناسى حتّى نسى أنّهُ بكى منها يومًا من الأيام. وإذا بالهرم قد حلَّ في جسده ليصبح في أرذل العمر، وذا هو التاريخ يكرر نفسه حيث تجدّدت التفاسير الخاطئة لحالته ولكن التعبير جاء مختلفًا عنها؛ لأنّهُ الآن الأكثر وعيًا لما هو عليه...
الآن هو أكثر هدوء عمّا في طفولته دموعٌ متناثرةٌ تملأ خديه، وتحرقها جدًا؛ لكثرة سيلانها، وذهنٌ سارح يرافقهما صمتٌ مطلق في غرفةٍ خصّصت لرعايته، فلم يكن قادرًا حتى ليسقي نفسه ماء... يطوف الأطفال من حوله كلّما تؤون لهم فرصة الدخول إليه؛ فهو دميتهم الأكثر متعة دمية تعيش الحياة. يقهقهون، ويحتالون عليه ولم يكن إلَّا بإبتسامته مجيبًا، إبتسامة ترافقها حسرة طويلة فلم الرد؟! ولا شيء في الدنيا يستحق أنْ يتعب نفسه من أجلها ولو بالهمس .
الحياة ... إنّها الحياة التي لاتعرف صاحبًا علمته كل شيء حتى وصل لما اليوم عليه ... إخترقه الفهم لدرجة بغضها؛ فلو خيّر بين أنْ يستعيد به العمر مراحله، أو الموت لأختار الموت على الإعادة .
في الفجر بعد صلاة الصبح إجتاحه الفرح شعر وكأنّه أصبح خفيفًا أخذ يشم ريح كلماته العبادية... الإستغفار، البسملة، الحولقة، الصلاة على الأطهار المطهرين إنّهُ ذكر الله الذي فاته العمر ثم وعاه كان الأكثر أنسًا له من صدر أمه؛ فبه تطمئن القلوب.
تشهد بالشهادتين، وبالأولياء الصالحين ثم سجد على تربته، وأطلق سراحه وها هو كيوم ولدته أمه ملفوفًا بالقطعة البيضاء ذاتها ولكن بدل أنْ يحوطه الجميع تركه الجميع إلّا من جافاه في حياته ألا وهو الله رب العالمين.
اضافةتعليق
التعليقات