التكيف، لغة، كلمة تعني التآلف والتقارب واجتماع الكلمة، فهي نقيض التخالف والتنافر والتصادم. والتكيف في علم النفس هو تلك العملية الديناميكية المستمرة التي يهدف بها الشخص إلى أن يغير سلوكه، ليحدث علاقة أكثر توافقًا بينه وبين البيئة. وبناءً على ذلك الفهم نستطيع أن نعرّف هذه الظاهرة بأنها القدرة على تكوين العلاقات المرضية بين المرء وبيئته.
والبيئة هنا تشمل كلّ المؤثرات والامكانيات والقوى المحيطة بالفرد، والتي يمكنها أن تؤثر على جهوده للحصول على الاستقرار النفسي والبدني في معيشته. ولهذه البيئة ثلاثة أوجه: البيئة الطبيعية والمادية، والبيئة الاجتماعية، ثم الفرد ومكوناته واستعداداته وميوله وفكرته عن نفسه.
البيئة الطبيعية:
المقصود بها كلّ ما يحيط بالفرد من أشياء مادية وطبيعية. وكلّ ما يلزمه ويحتاج إليه من مواد وأدوات تساعده على الحياة والكفاح في سبيل الاستمرار والبقاء
فالمناخ والجبال والسهول والوديان والأمطار والتربة والزلازل والبراكين والتضاريس الأرضية، تمثل كلها جوانب هامة طبيعية تؤثر على نمو الإنسان وقدرته على التوافق ومقدار ما يبذله من جهد في سبيل تحقيق أكبر قدر من السعادة لنفسه ولأفراد عائلته. كذلك الحال بالنسبة للطعام والمسكن والملبس، فهي تمثل جانبًا آخر، جانبًا ماديًا، لولاه لهلك الفرد وتعرّض للفناء..
فالأفراد يعيشون في مساكن كي تتجمع بعضها بجوار بعض في مناطق كثيرة؛ كما أنهم يتسترون بالملابس ويتحلى النساء بالأساور والعقود؛ ويتناولون الكثير من الطعام وهو وإن تنوعت طرق اعداده والمواد المتكونة فيه، فإنه يشبع حاجة أولية من حاجات الفرد الفسيولوجية والتي بدون اشباعها يتعذر عليه مواصلة الحياة. والإنسان في سبيل احتفاظه بحياته، لا بد من أن تتوفر لديه حاجات عدة، يعمل الكثير منها على المحافظة على كيانه العضوي والدفاع عن فرديته البيولوجية.
البيئة الاجتماعية والثقافية:
هي عبارة عن المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان بأفراده وعاداته والقوانين التي تنظم الأفراد وعلاقاتهم بعضهم ببعض. إن كلّ انسان منا ينتمي إلى أسرة يعيش بين أعضائها وكلّ منا ينتمي إلى وطن معين وإلى مجتمع معين يعيش بين أفراده، ويرتبط معهم بعلاقات اجتماعية واقتصادية وروحية وثقافية مختلفة.
إن هذه العلاقات تقوم على التعاون أحيانًا، والتنافس أحيانًا أخرى، وهي تقوم على المحبة تارة، وعلى التنابذ تارة أخرى. وكلّ إنسان مرهون وجوده بالمجتمع الذي يعيش فيه، فلا بُد للإنسان كي يعيش، من أن يعيش في مجتمع يتفاعل معه، يأخذ منه، ويعطيه، يستفيد من نشاطه، ويفيده من مجهوده الخاص. وقد أدّت طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد إلى وجود نوع من الشعور الاجتماعي المشترك بين أفراد الجماعة الواحدة. يتجلى هذا الشعور في تضامن أعضاء الجماعة الواحدة تجاه المهمات المشتركة والمسئوليات العامة، ويتجلى في شعورهم المشترك من الحوادث والحالات التي تفنيهم جميعا. فإذا كان هناك واحد من أفراد الأسرة أصيب بمرض ما، هب أبواه وأخوته وأقاربه إلى معونته وإلى تقديم وسائل العلاج والتطبيب إليه، وأخذوا يشاطرونه شعوره، ويتألمون لألمه، ويأملون شفاءه كما يأمل هو. وإذا كان ثمَة إنسان يشتغل في محل تجاري وأصابته أزمة مالية نتجت عنها خسارة المحل وتعرضه للإغلاق، أخذ العمال والشركاء الذين يعملون في هذا المحل مواقف مختلفة، فبعضهم يحاول أن يساعد صاحب المحل على أزمته، وبعضهم يشمتون به ويعتبرون خسارته نتيجة سوء تدبيره أو للظلم الذي أوقعه عليهم.
وفي المثال الأول، كما في المثال الثاني، نلاحظ أن الفرد لا ينفصل في مشاعره عن الجماعة، فهو معها في السراء والضراء، وهو مشارك إياها سلبًا أو إيجابًا، يقف منها تارة موقف المتعاون المتضامن، وتارة أخرى موقف المناوي المعادي أو بالأحرى أنه يقف هذا الموقف أو ذاك من فئة معينة من المجتمع، من جماعة بالذات دون غيرها.
ومن بديهيات الأمور أن المجتمع الحديث يختلف في شروط تكونه. وعلاقاته عن المجتمعات القديمة، وأن الملاحظة البسيطة ترينا بأن المجتمع الحديث أكثر تعقيدًا من المجتمع القديم. وكلما انتقلنا من مجتمعات مغلقة على نفسها، قليلة التطور في سلم المدنية، إلى مجتمعات كبيرة مفتوحة، قطعت شوطًا كبيرًا في النهوض الاقتصادي والفكري والإنساني، وجدنا أن العلاقة بين الأفراد تزداد تعقدًا واتساعًا وتنوعًا وغنىً، شأنها في ذلك شأن العلاقات بين الشعوب ذاتها.
كان الإنسان في الماضي مثلًا يهتم بأسرته وأبناء حيه، وبالتالي أبناء مدينته أو قريته، فإذا أصابت أحدهم مصيبة اندفع الأهل والجيران وأبناء الحي إلى مساعدة الشخص المصاب، وإذا نزلت نازلة بأحد الأحياء هبّ أهل القرية أو المدينة إلى تقديم المال اللازم وإلى التطوع في مساعدة المنكوبين.. كان الناس الذين يقومون بمثل هذه الأعمال يؤدون خدمات اجتماعية، ولكن الخدمة الاجتماعية التي يؤدونها، كانت تقتصر على فئة معينة من أفراد المجتمع.
البيئة النفسية للفرد:
ونقصد بها النفس البشرية، وكيف يستطيع الفرد أن يسوسها ويسيطر عليها، ويتحكم في مطالبها. ولا شك أن مفهوم الذات يلعب دورًا هامًا في توجيه سلوك الفرد وجهة اجتماعية يتقبلها الآخرون.
إن فكرة المرء عن نفسه هي النواة الرئيسية التي تقوم عليها شخصيته، كما أنها عامل أساسي في تكيفه الشخصي والاجتماعي..
فالذات تتكون من مجموع ادراكات الفرد لنفسه وتقييمه لها. فهي إذن تتكون من خبرات إدراكية وانفعالية تتركز حول الفرد باعتبار أنه مصدر للخبرة والسلوك والوظائف - والذات بهذا المعنى تختلف في مفهومها عن الأنا..
فالأنا هي مجموع الوظائف النفسية التي تتحكم في السلوك والتكيف. أما الذات فهي فكرة الشخص عن هذه الوظائف وتقييمه لها واتجاهه نحوها، فالذات باختصار هي فكرة الشخص عن نفسه، هي نظرة الشخص إلى نفسه باعتبار أنه مصدر الفعل.
وتتميز الصور الذهنية التي يكونها الفرد عن نفسه بأنها ذات ثلاثة أبعاد: يختص أولها بالفكرة التي يأخذها الفرد عن قدراته وامكانياته، فقد تكون لديه صورة عن ذاته كشخص له كيان، ذي قدرة على التعلم، وقوة جسمية، وبإيجاز فإنه شخص كفء للنجاح. وعلى العكس من ذلك قد يكون لدى الفرد صورة بأنه عاجز، أو فاشل، أو أنه قليل الأهمية، ضعيف القدرات، وبأن فرص النجاح أمامه ضئيلة.
أما البعد الثاني في مفهوم الذات، فيتعلق بفكرة الفرد عن نفسه في علاقاته بغيره من الناس. فقد يرى في نفسه شخصًا مرغوبًا فيه، أو أنه منبوذ من الآخرين، وقد يرى أن قيمه واتجاهاته ومركز أسرته الاقتصادي والاجتماعي وآباءه وعنصره أو دينه من الأسباب التي تجعل الآخرين ينظرون إليه بتوجس أو بعدم ثقة وحذر، أو ينظر إليه بعين الاحترام. إن مما يؤثر أبلغ تأثير في نظرة الفرد إلى نفسه، الطريقة التي ينظر بها الناس إليه، لأن صورة كلّ فرد عن ذاته تتكون من خلال نظرة الآخرين إليه.
أما البعد الثالث، فهو نظرة الفرد إلى ذاته كما يجب أن تكون. وهذه النظرة تختلف عن الصورة التي يرى فيها نفسه بالفعل - أهلًا أو غير أهل، محبوبًا، أو منبوذا، كفوًا أو غير كفء - نجد أن كلّ فرد يتخيل نفسه في أعماق ذاته، فتكون له مثله العليا واتجاهاته وقيمه وتوقعاته وأهدافه ومستويات طموحه التي يرغب في تحقيقها. ويطلق على هذا البعد (الذات المثالية). وكلما صغر الاختلاف بين هاتين الصورتين - ونعني الطريقة الفعلية التي ينظر بها الفرد إلى نفسه، والنظرة المثالية التي يتمناها - ازداد في النضج، وأصبح من المحتمل لهذه الصورة أن تتحقق، وحينئذ يمكن القول بأنه متقبل لذاته كإنسان، ولديه الثقة بنفسه وبقدرته، ويثق بمن يمدون له يد المساعدة على طول الطريق، كما تكون لديه الشجاعة على مواجهة حدوده والعيش في نطاقها والنظر إلى مستقبله وأهدافه نظرة واقعية.
إن البيئة بأبعادها الثلاثة، كما أوضحناها، تؤثر بطريقة مباشرة على حياة الفرد، وتحدد الأسلوب الذي يحقق له التكيف والمواءمة مع كلّ جانب من جوانب هذه البيئة، سواء أكانت ..
مادية، طبيعية، اجتماعية، أو نفسية. من كتاب (التكيف النفسي) د. مصطفى فهمي
اضافةتعليق
التعليقات