كان للحركة الانحرافية التي قام بها الغلاة من الشيعة الدور المهم في إثارة شبهة تحريف القرآن وتوجيه أصابع الاتهام للشيعة من قبل أتباع سائر الفرق الإسلامية بأنهم لا يهتمون بشأن القرآن الكريم، ويؤمنون بتحريفه وعدم حجيته؛ ومن هنا انبرى الإمام الهادي لتفنيد هذه الشبهة وبيان مكانة القرآن في فكر المدرسة الإمامية، وأنّ القرآن الكريم هو المصدر الأول للمسلمين والحجة في جميع التشريعات والمواقف التي يعتمدها الشيعة، وأنّ الروايات المخالفة للقرآن الكريم تعدّ من زخرف القول الذي يضرب به عرض الجدار.
وقد بيّن الإمام ذلك مفصلاّ في الرواية التي نقلها ابن شعبة الحرّاني التي جاء فيها: "اعلموا - رحمكم الله - إنّا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الإسلام ممن يعقل عن الله عزوجل لا تخلو من معنيين: إمّا حق فيتبع، وإمّا باطل فيجتنب. وقد اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، وفي حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب وتحقيقه، مصيبون، مهتدون... والقرآن حق لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه: فإذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقة وأنكر الخبر طائفة من الأمّة لزمهم الإقرار به ضرورة حين اجتمعت في الأصل على تصديق الكتاب، فإنّ هي جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملة".
وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، قالا: "لا تُصَدِّقْ علينا إِلا بما يوافق كتابَ اللَّه وسُنَّةَ نبيه".
الإمام (عليه السلام) ومسألة خلق القرآن
من المسائل الرهيبة التي ابتلي بها المسلمون في حياتهم الدينية، وامتحنوا بها كأشد ما يكون الامتحان هي مسألة خلق القرآن، فقد ابتدعها الحكم العباسي في بدايات القرن الثالث الهجري، وأثاروها للقضاء على خصومهم، وقد قتل خلق كثيرون من جرائها، وانتشرت الأحقاد والأضغان بين المسلمين.
ومن هنا حذّر الإمام شيعته من النزول إلى تلك المعركة التي ضلّ فيها الجدلّيون ضلالاً كبيراً، فلم يشترك الشيعة في ذلك النزاع حول صنع الله عزّ وجلّ وحول كلامه الكريم، وبيّن لهم الموقف في رسالته التي جاء فيها: "عصمنا الله وإياك من الفتنة، فإن يفعل فأعظم بها نعمة، وإن لا يفعل فهي الهلكة، نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة، اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطى السائل ما ليس له، ويتكلف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلا الله عز وجل، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين". وبهذا وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة الحساسة وجنّب شيعته الوقوع في فتنة كبيرة وفخّ خطير كادت دماؤهم أن تراق بسببه.
كلام الله
كان للمواقف التي يتخذها بعض علماء الشيعة وطوائفهم - بسبب تباعد مواطنهم وعدم وجود قنوات اتصال سريعة بينهم - الدور الكبير في تعقيد عمل الأئمة (عليهم السلام) في بيان الحقيقة وهداية الناس، يضاف إلى ذلك ما يقوم به خصوم الشيعة من المبالغة في ذلك وتشطير الفرق الشيعية بطريقة غريبة جداً حتى عدوا منها - كما يقول الكشي - الزرارية والعمّارية واليعفورية و... ناسبين ذلك إلى كبار أصحاب الإمام الصادق : زرارة بن أعين، وعمّار الساباطي وابن أبي يعفور.
وقد يواجه الأئمة (ع) – أحياناً- بعض الأسئلة الناشئة من ذلك الاختلاف في المواقف والرؤى في الوسط الشيعي، منها قضية التشبية والتنزيه...
ومن جملة المسائل الهامة التي ثار الجدل حولها – أيضاً - في ذلك العصر، وكثر الأخذ والردّ مسألة الجبر والتفويض التي أدّت إلى انقسام المسلمين انقساماً كان ذا خطرٍ دخل في صميم العقيدة، إذ نسبت فئة منهم، وقوع الذنب من العبد، إلى الله - والعياذ بالله من ذلك - محتجّة بأنّ الذنب يقع بعلمه تعالى وتقديره، وبإقدار العبد على ذلك بما خلق له من آلاتٍ يباشر الذنب بواسطتها، وبأنّ العبد لا اختيار له في تجنّب الذنب؛ لأنّه محمول عليه قد كتبه الله تعالى وقضى به عليه!. ثم أنكرت فئة أخرى ذلك، وقالت بأنّ للعبد أن يختار، وهو الذي يرتكب الذنب بتمام إرادته، وبكامل اختياره، وبواسطة الآلات الّتي منحه الله تعالى إيّاها لطاعته لا لمعصيته.
وقد تكلّم إمامنا في هذا الموضوع الهامّ - كما تكلّم آباؤه - وجدّاه الصادق والرّضا بالخصوص (ع) جميعاً، لئلاّ يقع شيعته في فخّ الكفر وزخرف القول.. ثم تكلّم في الجبر والاختيار كلاماً بليغاً يقطع كلّ جدلٍ ونقاش، مبينها رفضه للجبر والتفويض معاً وموضحاً أن هناك حالة وسطية هي الأمثل وهي: "لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين",
علماً أنّ أكثر الروايات الاحتجاجية الواردة عن الإمام الهادي منصبة على مسألة الجبر والتفويض.
وكان الوكلاء يتواصلون مع الإمام عن طريق المكاتبات بواسطة الثقات من الشيعة .
دور الإمام الهادي (عليه السلام) في حماية الأمة من الانحراف
نذكر بعضاً من أقواله الخالدة، وما حوت من معانٍ جليلةِ القدر عظيمة الشأن؛ فما يُروى عنه من أقوال وحِكَم وهداية ومعارف هو ما رواه الحرّاني في كتابه القيِّم (تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله)، وهو من أعلام القرن الرابع الهجري، فقد روى له رسالة طويلة كان (عليه السلام) قد وجّهها إلى بعض البلدان الإسلامية للإجابة على الجدل والخلاف الفكري الذي طال واستطال بين المسلمين حول مسألة (الجبر والاختيار والتفويض في السلوك الإنساني) وقد وقعت هذه الرسالة في خمس عشرة صفحة من الحجم الكبير في كلّ صفحة أربعة وعشرون سطراً تقريباً.
جاء في صدر هذه الرسالة:
(من عليّ بن محمد، سلامٌ عليكم وعلى من اتّبع الهدى ورحمة الله وبركاته، فإنّه وَرَدَ عليَّ كتابُكُم، وفهمتُ ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم، وخوضِكُم في القدر، ومقالةِ من يقول منكم بالجبر، ومن يقولُ بالتفويض، وتفرّقكم في ذلك، وتقاطعكم، وما ظهر من العداوة بينكم، ثمّ سألتموني عنه، وبيانه لكم، فهمت ذلك كله).
فالمتأمل في نصوص هذه المقدمة من الرسالة يُدركُ بوضوح حدّة الخلاف العقائدي وانعكاسه على العلاقات الاجتماعية، وبلبلة الفكر والرأي في تلك المسائل الخطيرة، كما تكشف أيضاً مرجعيةَ الإمام العلمية، ولجوءِ الأمة إليه لفهم الإسلام، وتوضيح العقيدة، وبيان معضلات الفكر والمعتقد.
ولنقتبس فقراتٍ من هذه الرسالة الطويلة، ليتّضحَ منهجُ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير سلوكِ الإنسان، وصدور الطاعة والمعصية منه، ومسؤوليتهِ عن ذلك، وبراءةِ الله سبحانه من الجبر والظلم، وتصرّفه في خلقه، وغلبة قهره ومشيئته وإرادته، فهناك كما هو واضح ثلاثة آراء في الإطار الإسلامي، تفسِّر أعمال الإنسان وسلوكه، هي:
1 - القول بأن الإنسان مجبرٌ، وتجري عليه الأفعالُ كما يجري الماء في النهر، فالإنسانُ لا يملكُ إرادةً ولا اختياراً، والخيرُ والشرُّ الصادر عنه، إنما هو من فعل الله فيه.
2 - ورأيٌ يقول أن الأمر مفوضٌ إلى الإنسان أي أن الله أهملَ العباد، وليس لله دخلٌ في صدور الأفعال منهم، وليس بوسع الله أن يمنعهم من فعل شيء، فالحياة وفق هذا الرأي لا تخضعُ لإرادة إلهية منظمة.
3 - ورأيٌ ثالثٌ، وهو رأي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، يقول بالأمر بين الأمرين، والمنزلة بين المنزلتين، فالإنسان يملكُ الإرادة والاختيار، وهو ليس مجبراً، ولكن الأمر ليس مفوّضاَ إليه، وأن الله قادرٌ على أن يمنعه عن الفعل الذي يفعله، وقد يمنعه الله عن فعل الشر لطفاً به، أو يعينه على فعل الخير لاستحقاقه ذلك.
اضافةتعليق
التعليقات