الاعتذار ليس كلمة تقال في زحمة الحديث وتبرير الخطأ، أو البحث عن مخرج من الورطة التي سببها سلوك ما خاطئ، مازلت أشعر وكأن فمي مقفل بمئات الأقفال الموصدة في أعماق الروح وتقف الكلمات دون حراك لمجرد أنني قبلت الكثير من كلمة "آسف" دون أن أشعر بها، بينما الاعتذار يعني الاقتناع التام بأن هناك خطأ ينبغي تصحيحه، وهو ما أوجب الاعتذار، وبالتالي فإن نوع الاعتذار لابد وأن يقترن بنوع الخطأ وحجمه، ولكن قد اعتاد مجتمعنا أن يعتذر بكل برود متناسياً كل الجوانب النفسية أو على الأقل حجم الخطأ الذي ارتكبه مما أضاع معنى الاعتذار بحد ذاته وأصبح كلمة عادية ككلمة "مرحباً" تقال في كل وقت وإن لم تكن تقصد ولكن شتان بين الترحيب والتضميد وهكذا يبقى الجرح غائرا.
آسف قلها وكفى: هل تكفي؟
لسنا ملائكة لا نخطأ، ولسنا أنبياء لا نتجاوز على الآخرين ولا نظلمهم، الخطأ منا متوقع، والتجاوز من قِبلنا على الآخرين ليس مستغرباً، فنحن بشر، والبشر خطاؤون، وعلينا أن لا نكابر عند صدور الخطأ منّا، وكأننا نريد أن ننزه أنفسنا منه، فنجانب الحقيقة، ونرجو المستحيل، ونزكي أنفسنا كذباً وبهتاناً، والله عز وجلّ يأمرنا باتهام الذات، وعدم تبرئتها لنتمكن من عمل مراجعة موضوعية تبدأ من الذات أوّلاً وقبل كل شيء يقول عزّ من قائل: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، ويقول أيضاً: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ)، بينما البعض منا يحاول أن يلقي بأخطائه على الآخرين، بل ويبحث عن كلّ الوسائل والذرائع لتحميل الآخرين أخطائه، وإلصاقها بهم، وتبرئة ذاته من كل شيء، وإنكار حقائق أفعاله وتجاوزاته، والجدال في ذلك أحقابا (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا)، ولأن الإعتراف بالخطأ يحتاج إلى شجاعة أدبية، وتحمل ما يترتب على ذلك من مسؤوليات والتزامات، فإن البعض يهرب عادة من كل ذلك محاولاً دس رأسه في التراب كما يقال، وذلك هروباً من مواجهة استحقاقات الخطأ والحقيقة التي لا مفر منها هي أن ارتكاب الخطأ يرتب على المخطئ إلتزامات أخلاقية بحجم الخطأ، وأنّ الإعتراف والإقرار بالخطأ والاعتذار منه فضيلة أخلاقية، وقيمة دينية، وفعل حضاري ينبغي أن يتحلى به بكلّ شجاعة واقتدار، هذا جزء مما ذكره الكاتب محمد العليوات في كتابه "آسف قلها وكفى" موضحا جوانب الاعتذار وأبعاده الايجابية بيد أنه قد تناسى أن يؤدب المعتذر فالأمر لا يتوقف على كلمة رددت بلا مشاعر لتجاوز خلاف ظاهر إنما الأمر أعمق من ذلك بكثير حيث أنه قد أشار إلى تجاهل الخطأ وترفع المتضرر من خلال قوله "من المؤكد قبول عذر الآخر دليل عقل وحكمة ومن صنائع المعروف، فإن العاقل يتعالى على جراحاته ويتسامى على همومه"، متجاهلا أن للنفس حق علينا فكيف نتجاهلها بتجاهل جراحاتها لمجرد أن أحدهم بعد أن جعلك متألما قرر أن يرمي لك كلمة عابرة وكفى وفي المقابل عليك القبول بكل بساطة، لكن هناك من كان له وجهة نظر مختلفة ويرى أن الاعتذار وحده لا يكفي وهناك أشياء غير “أنا آسف” عليك فعلها، وأولها:
لا تخترع الأعذار:
قد يكون من المغري الدفاع عن نفسك وشرح الأسباب التي دفعتك للخطأ بحق شخص ما وأنت تقدم له الاعتذار، لكن هذا قد يضعك في ورطة حقيقية، فيقول المعالج النفسي جوناثان ألبرت، لا تحاول أن تشرح سبب ارتكابك لخطأ ما بدلاً من ذلك، كن مباشرًا اعترف بخطئك كما يجب عليك أيضًا الابتعاد عن كلمات مثل (لكن، لو، فقط) لأن هذه التعبيرات تزيد من الأذى.
كذلك عليك التعبير عن الندم:
وفي سياق هذا الموضوع يقول دينيس مايرز، المدير الوطني لخدمات الصحة السلوكية في شركة ماراثون هيلث: “يجب أن يشمل الاعتذار الحقيقي التعاطف والندم الحقيقي”، وربما هذا أساس الاعتذار وهو الأمر الذي يجعل من المقابل يشعر من أن هناك ضماد في طريقه إلى جراحه.
وفي النهاية عليك أن تكون دقيقاً وصادقاً، وأن تحدد ما الذي تعتذر عنه حيث يضيف ألبرت: “إن قول عبارة أنا آسف، بشكل عام، أمر غير مجد في الاعتذار عليك تحديد الخطأ الذي تريد الاعتذار عنه على وجه الخصوص، فهذا يجعله أكثر إقناعا للطرف الآخر” وإن أبسط الطرق وأكثرها صدقًا للاعتذار هي التحدث من القلب قائلاً: “لا تخف من إظهار المشاعر هذه هي خطوتك الأولى في إضفاء الطابع الإنساني عليك وإظهار الصدق، وكلاهما ضروري لاستعادة الثقة والاحترام ومنها يجب أن يكون الاعتذار فعلاً قبل أن يصبح قولاً، ومثلما أن الاعتذار واجب، فإن قبول الاعتذار والصفح أوجب، لأنه خلق الكرماء والنبلاء، وهذا لا يعني قبولاً بالأمر الواقع أو ابتلاعاً للإهانة، بل تسامح وإنصاف وحفظ للود ولكن هذا لا يعني أن يعود الانسان إلى سابق عهده، وفي النهاية ثقافة الاعتذار ممارسة تحتاجها مجتمعاتنا كثيراً، وينبغي زرعها في نفوس الأطفال، وبحيث تصبح جزءاً من ثقافتهم فتنعكس إيجابياً على مجمل علاقاتهم الاجتماعية لاحقاً، وعندها فقط سيستطيعون ممارسة الاعتذار بلا تردد ودون شعور بضعف أو خجل، فإن الدين المعاملة.
اضافةتعليق
التعليقات