كثيرة هي الروايات التي تتحدث عن ثمرة البكاء على أهل البيت (عليهم السلام) عموما، والإمام الحسين خصوصا، مضامين تلك الروايات تدعو إلى العجب لمن يتأملها! وقد يراها البعض تنطوي على مبالغات؛ فهل من المعقول أن يكون للبكاء كل هذا الأثر كما ورد في الروايات، وهو مجرد حالة انفعالية طبيعية تنتاب الإنسان عندما يكون حزينا؟.
من تلك الروايات قول الرسول (صلى الله عليه وآله) لسيدة النساء (عليها السلام): "وكل من بكى منهم على مصاب الحسين (عليه السلام) أخذنا بيده وأدخلناه الجنة، يا فاطمة كل عين باكية يوم القيامة إلا عين بكت على مصاب الحسين (عليه السلام) فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة".
وقول الإمام السجاد (عليه السلام): "أيّما مؤمن دمعت، عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) حتى تسيل على خدّيه بوأه الله تعالى بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا" .
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديثه مع ابن شبيب: "يا ابن شبيب إن بكيت على الحسين (عليه السلام) حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيرا كان أو كبيرا قليلا كان أو كثيرا ".
أما الإمام الصادق (عليه السلام)، فقد حدّد لنا مقدار تلك الدمعة حيث يقول: "ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله ولم يرض له بدون الجنة "..
فحجم جناح الذبابة تقريبا حجم دمعة واحدة، إذن دمعة واحدة تكفي، ولها شأن كبير عند الله، وهي قادرة على تغيير مصير الباكي، منذ لحظة انطلاقها من بين الجفون، وأثناء مسيرتها، انتهاء بادّخارها في علم الغيب لتوافي صاحبها في يوم لا ينفع مال ولا بنون .
ولكن نعود للسؤال الأول، لماذا الدمعة على الحسين لها هذا الأثر العظيم؟
الجواب على هذا السؤال عميق، وله جوانب عديدة، منها:
١- لأن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن إنسانا عاديا؛ بل كان إماما معصوما، وممن اختارهم الله واصطفاهم لهداية خلقه، فقتْله يُعتبر عصايانا سافرا لله، وتحديا له في أوليائه؛ فالبكاء عليه طاعة لله فيما أمر به من موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه؛ علما بأن التولّي والتبرّي ركنان مهمان من أركان الدين .
٢- لأن الإمام الحسين سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) وريحانته من الدنيا؛ فالبكاء عليه مواساة لقلب الرسول ووفاء له في سبطه، فقد بكى الرسول حفيده قبل ولادته، حين أطلعه الوحي على ما سيجري عليه من شرار أمته، وبكاه عندما بُشّر بمولده المبارك، فيالها من بشرى مقترنة بدموع المصاب، واستمر يبكيه طوال حياته، وفي مناسبات شتّى حتى تغمر دموعه محياه الشريف، ويشاركه في البكاء جلساؤه .
وليس قلب الرسول (صلى الله عليه وآله) وحده قد تصدّع لمصاب الحسين، فقد بكاه أمير المؤمنين والزهراء (عليهما السلام)، والأنبياء والرسل جميعهم؛ فالبكاء عليه مواساة لهؤلاء كلهم، بل بكته الكائنات جميعها حتى الجمادات، وانفعلت لمقتله المريع بظواهرها المختلفة، أفيكون الإنسان الموالي أقلّ انفعالا وتأثرا لرزية إمامه؟
٣- لأن الإمام الحسين (عليه السلام) يمثل جبهة الحق بكل وضوحها وتجلياتها؛ فالبكاء عليه هو صرخة بوجه الباطل، وانتصارا للجبهة التي يمثلها الإمام الحسين، ولأن الإمام الحسين قتل مظلوما؛ فالبكاء عليه وقفة صارمة بوجه الظلم وحربا على الظالمين .
٤- إن الله تعالى هو من رتّب الثواب العظيم على دمعة الحزن الحسينية، فهذا الثواب يقاس بميزان الكرم الإلهي، وليس بميزان الأهواء البشرية وحساباتها المحدودة؛ فالله يضاعف لمن يشاء وكيف يشاء، ( مَن جَاۤءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَا ).
وقال تعالى: { مَّن ذَا ٱلَّذِی یُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا فَیُضَـٰعِفَهُا لَهُ أَضۡعَافࣰا كَثِیرَةࣰ }، وغيرها من الآيات القرآنية؛ فليس غريبا أن يكرّم الله وليّه بهذه الكرامة، ويخصّه بهذه المزية انتصارا له؛ وأن يجعل للحزن عليه بعدا آخر وإن لم تستوعبه عقول البعض؛ فقد ضحّى الإمام الحسين (عليه السلام) لله بكل مايملك، وقدّم القربان تلو القربان على مذبح العشق الإلهي في ملحمة الإباء والكرامة التي عزّ نظيرها، فشاء الله أن يرفع قيمة الدمعة الحسينية، ويضاعف أجرها لتكون وقودا يديم حرارة المصيبة وتوهجها في القلوب، وليكون استمرار البكاء على الحسين (عليه السلام) - رغم مرور مئات السنين - سرا من أسرار خلود نهضته، وحضورها الحيّ والدائم في الوجدان، وليبقى الحسين صريع الدمعة الساكبة، وعبرة كل مؤمن، كما ورد عنه عليه السلام: "أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمنٌ الا بكى" .
فلا يمرّ ذكره إلا وتهيج الأرواح بوجدها، وتغرق العيون بطوفان الدموع!
نعم دمعة واحدة تكفي؛ لأنها دمعة واعية وتعكس بصيرة صاحبها، وولائه، ولأنها اقترنت بسيد الشهداء (عليه السلام) فاكتسبت نفاستها وقداستها .
اضافةتعليق
التعليقات