كثُر ما علت الصيحة في هذه الأيام أن بين الدين والعلم عداءً وأن في طبيعة الدين شيئًا يعاند طبيعة العلم أو بالعكس. والحقيقة أن هذا القول له مبرراته القديمة والحديثة. وله فوق ذلك وقائع يذكرها التاريخ ووقائع تقع تحت أعيننا.
غير أن مجرد القول بأن بين الدين والعلم عداءً وصراعًا ومجرد رواية الوقائع التاريخية أو حدوث وقائع في زماننا هذا تؤيد ما يرويه التاريخ ليست بدليل قاطع على أن في طبيعة الدين شيئًا يُعاند طبيعة العلم أو أن في طبيعة العلم شيئًا يعاند طبيعة الدين. ولو أنك نظرت نظرة أولية في حالات الحضارة الحديثة لوقعت لأول وهلة على أشياء تدلُّك على صحة ما نذهب إليه. فإن العلم يجري تياره بأقصى ما جرى تيار من التقدم في كل العصور، وتجد بجانبه روح الدين قائمة راسخة القواعد، وأنها لم تكن في عصر من العصور الماضية بأكثر ثباتًا في النفوس منها في عصرنا هذا.
نعم إننا لا ننكر. مرت على المدينة عصور خَفَتَ فيها صوت الدين ليعلو صوت المادية حينًا، ولكنا نجد مع هذا أنه مهما خَفَتَ صوته في الخارج، فإن ثباته في النفوس لم يضعف، وركيزته في اليقين لم تهن.
ولو صح أن بين الدين والعلم عداءً وصراعًا، فكيف أن هذا الصراع الذي ظَلَّ قائمًا بينهما خمسة وعشرين قرنا من الزمان لم ينته بأن يصرع أحدهما الآخر؟ وهل خمسة وعشرون قرنًا غير كافية لأن تُنهي المعركة وتنصر فريقًا؟
الحقيقة أن الصراع ليس قائمًا بين العلم والدين والحقيقة أن الدين والعلم كل منهما يستمد من ناحية من نواحي التكوين الفكري في الإنسان؛ لهذا ظَلَّ الدين باقيًّا وظل العلم ثابتًا لأن كلا منهما مظهر من مظاهر الفكر الإنساني. ولكن إذا اعتقدنا هذا، فبأي شيء نُعَلِّلُ ذلك التاريخ الطويل الذي حاول فيه رؤساء الدين أن يخفتوا صوت العلم وبأي شيء سوف نُعَلِّلُ ذلك الصراع الذي سيحاول فيه رجال العلم أن يخفتوا صوت الدين في المستقبل؟
إذا اعتقدنا أن الصراع لم يَقُمْ بين الدين على اعتبار أنه شيء مُسْتَمَدُّ من طبيعة الإنسان وبين العلم على اعتبار أنه شيء مُسْتَمَت من القوة العاقلة التي خص بها الحيوان الناطق، واعتقدنا أن الصراع قام في الواقع بين اللاهوت المذهبي وبين العلم استطعنا أن نعلل حوادث التاريخ بل استطعنا أن نظهر على شيء مما سوف يقع في المستقبل.
الجمود ضروري للاجتماع مفيد للحضارة
الجماعات تشعر ولا تفكر بل قيل بأن رقي الجماعات من حيث الشعور والتفكير يقاس في الحقيقة بنسبة أضعف فرد من أفرادها تفكيرًا وأهوجها شعورًا مضروبا في عدد الجماعة. ولكنَّ الناظرين في حالات الاجتماع نسوا أن يذكروا بجانب هذا أن الجماعات جامدة صرفة كما هي شاعرة صرفة، وأن جمودها هذا ضروري للاحتفاظ بتوازن خطاها التي تخطوها نحو الارتقاء في كل ضروبه وعلى اختلاف ألوانه.
مرَّ على الناظرين في حالات الاجتماع عقود من السنين وهم يقولون بما قال جوستاف لوبون. ولم يَمُرَّ بهم خاطر أن الجماعات كائنات جامدة بطيئة القبول لحالات التغير والنشوء. وإني لأُثبت هنا أن أول من عثرت له على قول في هذا الموضوع الخطير هو العلامة كارل بيرسون الإنجليزي إذ يقول:
إن ما نجد في مباحث داروين من نفوذ البصيرة وقوة الإدراك، وما عقبها من مؤلفات سبنسر تلك المؤلفات التي هي على قوتها وبالغ أثرها سوف تكون أقل ثباتًا وأسرع زوالًا من مؤلفات داروين، وما زودتنا به مبادئ النشوء في الحياة الفردية والاجتماعية، قد اضطرتنا إلى تعديل أفكارنا القديمة وتقويمها، وأخذت تُقَوِّي من دعائم مُثْلِنَا الأدبية وتوسع من ميدانها، ولكن ببطء تدرجي. ولا يجب أن يحزننا هذا البطء ولا أن يُيئسنا؛ لأن من أقوى المؤثرات التي تحفظ الثبات الاجتماعي وتحول دون تخلخله تلك الصفة التي نبغضها؛ صفة الجمود على القديم. لا بل نقول بأن العداء الصارخ الذي تقابل به الجماعات الإنسانية كل الفكرات الجديدة لمن أخص تلك المؤثرات.
وإن هذه الصفات هي بمثابة الكور المتلظية نيرانه، والذي بدونه لا نستطيع أن نفصل بين المعدن الصحيح والفضلات الزائفة وهي التي تحمي الجسم الاجتماعي من أن يُترك معرضًا لتغيرات تجريبية فجائية، قد تكون غير مفيدة آناً أو بالغة أقصى الضرر آناً آخر.
والظاهر أن بين بناء العالم المادي وبين تكوين الجماعات الإنسانية أوجها من التشابه تمثلها عناصر لازمة لحفظ النظام في كليهما. ففي الجوهر الفرد كهارب إيجابية وأخرى سلبية، وفي الدقائق المادية قوتا جذب ودفع. وفي الاجتماع تقدُّم وجمود، وفي الحياة موت هو لزام لوجودها. وعلى هذا النمط نَجِدُ أن الصفات السلبية التي نبغضها في المجتمع هي في الواقع أشياء لازمة للمحافظة على كيانه باعتباره اجتماعًا إنسانيا تنعكس على صفحته الصفات الفردية والاجتماعية.
خذ بين يديك قطعة من المادة اللينة واضغطها فإنها تأخذ شكلًا ما، ثم اضغطها ثانية فإنها تتبدل من شكلها الأول شكلا آخر. وهكذا فإن كل ضغطة تصورها في صورة جديدة. وتمثل بعد هذا أن المجتمع الإنساني فيه من صفات الليونة ما في هذه المادة، وأنه فقد كل صفات الجمود والمحافظة على القديم، ألست ترى أن ذلك يكون منتجا لفوضى عظيمة في نظام الأشياء الإنسانية، وأن تَقَبُّل كل جديد ليهدم ما قبله وليهدمه ما بعده؛ يكون في هذه الحالة إفسادًا لبناء المجتمع وتحطيمًا للمعاهد التي تقوم عليها المدنية؟
عدِّد من مذاهب الفلسفة العلمية ما شئت أن تُعَدِّدَ، وارجع إلى مذهب سقراط ثم الكلبيين ثم السيرينين، ثم إلى مذهب الأبيقوريين ثم إلى الرواقيين، واعدل عن هذا إلى تضارب جهات الفكر المعتقد، وتصوّر بعد هذا أن المجتمع الإنساني كان فيه من الصفات ما تحتمل تقبل كل هذا، ثم رفضه على تتالي الأجيال وعلى تقارب الفترات التي كانت تظهر فيها المذاهب والآراء الفلسفية واحدًا تلو الآخر، فهل كنت تجد في بناء المجتمع ما تجد فيه الآن من الثبات؟ وهل كنت تَجِدُ أن للحق ما له الآن من صفات البقاء والخلود؟
وكذلك تَجِدُ الحال في السياسة والدين واللغة وفي كل ما تقوم عليه الحضارة من الصفات الاجتماعية. وعلى هذا تَجِدُ أن التقدم والارتقاء قوة إيجابية تعضدها – وإن كانت تقاومها – قوة سلبية هي الجمود والمحافظة على القديم، كما لو كان المجتمع الإنساني دقيقة من المادة تجذب جواهرها بعضها بعضًا في حين أنها تتدافع. وهذا لزام لبقائها دقيقة مادية خالدة كما أن الارتقاء والجمود صفتان لازمتان لبقاء المجتمع الإنساني مجتمعًا مستكملا لصفات النشوء والارتقاء.
لهذا لا يجب أن ننظر إلى الجامدين نظرة من يعتقد أنهم رجعيون؛ لأن الرجعي هو الذي ينكص إلى الخطأ على الرغم من أنه يعلم أنه سائر في سبيل الحق والصواب. أما الجامدون فهم القوة السلبية التي تحفظ على الجماعات نصيبها من التوازن اللازم لثباتها، وخطوها نحو الارتقاء في خُطًا متعادلة بطيئة، ولكنها تدريجية.
اضافةتعليق
التعليقات