قررت أن اختلي بنفسي أربعين يوماً في مكان منعزل، بعيداً عن الناس، بعيداً عن شواغل التكنولوجيا، بعيداً عن ملهيات الحياة.
لماذا الخلوة؟
لـدي قـناعـة أن الارتقاء الروحي وتحسين الصلة بالله لا يأتيان إلا بممارسة الخلوة، فلا أعرف نبيا أو مصلحاً أو فيلسوفاً أو أي شخص لـديـه ارتقاء روحاني عـال إلا وقد مارس الخـلـوة في مرحلة من مراحـل حياته، وحتى الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان هو ضرب من ضروب الخلوة.
كل إنـسـان لـديـه مـا أسميه الـ (كلاكيع) وهي عُقد نفسية أو صراعات داخلية، وهي فيروسات تعيق عمل الإنسان بإحسان، تماماً كما تُعيق الفيروسات عمل الكمبيوتر بشكل سلس وسريع.
الكمبيوتر إذا كان فيـه فـيـروسـات كـبـيـرة وعميقـة لا يمكن إصلاحها إلا بوقف العمل اليومي على الجهاز وإرساله إلـى خـلـوة الإصلاح، حيث تعالج هذه الفيروسـات مـن جذورها، وأحيانـا تـكـون هناك حاجـة إلـى (Reformatting) أو إعادة تهيئة للجهاز بالكامل.
الخلوة للإنسان - فيما أرى - هي إعادة تهيئة لفيروسات النفس ومعالجتها.
والفيروسات أنواع: بعضها يمكن علاجه بتنزيل برنامج (Antivirus)، وهذا يمكن أن يعالج المشكلة في أثناء عمل الجهاز بشكل طبيعي، ولكن الفيروسات المستعصية لا يمكن علاجها إلا بأخذ الجهاز إلى مكان إصلاح. وكذلك عقد الإنسان وذنوبه وضعفه؛ بعضها يمكن علاجه في أثناء السير في الحياة اليومية، ولكن توجد نقاط ضعـف وصراعات وعُقد متأصلة، لدرجة أنه لا يمكن علاجها إلا بإعادة تهيئة بالكامل، وهنا يأتي دور الخلوة والوقفة مع النفس؛ لتلبي ذلك المطلب.
متى كانت آخر مرة جلست فيها ٢٤ ساعة مع نفسك دون بشر ولا تكنولوجيا؟
إن لم تفعل فجربها مرة، اعتبرها دورة روحية.
ما الخلوة؟
الخلوة هي أن يخلو الإنسان بنفسه تماما مدة معينة ينقطع فيها عن حياته اليومية.
شروط الخلوة (وهذا في رأيي الشخصي، وليس قاعدة ملزمة):
ا. الـذهـاب إلى مكان بعيد عن الحياة اليومية (بعيد عن المنـزل، والعمل، والأصدقاء)، ويفضل أن يكون في مدينة أخرى، وقد اخترت – في حالتي - جزيرة صغيرة ونائية في المحيط الهادئ.
كانت جزيرة هادئة ليس فيها سوى بضعة بيوت، وليس فيها محال ولا أسواق.
2. عدم وجـود أي وسائل تواصـل حـديثة (جـوالات، كمبيوتر، إنترنت... إلخ) مع إمكانية وجود هاتف يعطى فقط للمقربين؛ من أجل التواصل في حالة الطوارئ.
3. عدم وجود ناس، والسكن في مكان معزول، وعدم التواصل مع الناس إلا للضرورة.
4. أن تكون ٢٤ ساعة على الأقل، إذ أعتقد أن أي خلوة أقل من ٢٤ ساعة لن يكون لها أثر فعال، فالحـد الأدنـى هـو ٢٤ ساعة، وقـد كـانـت لي عادة منذ سنوات عدة، تخصيص كل يوم إثنين للصـوم وعمـل خـلـوة ٢٤ ساعة، ولأنها مدة قصيرة، فكنت أنعزل في غرفة فـي المنزل، وأبلغ الجميع بعدم الدخول علي، وفي حالتي هذه المرة، قررت أن تكون ٤٠ يوماً، وسأشرح لاحقا لماذا ٤٠ يوما؟
5. ألا يكون في متناول يدك أي شيء أنت مدمن عليه ومتعلق به.
• إذا كنت متعلقاً بالسجاير، فاذهب إلى مكان لا يبيعها.
• إذا كنت متعلقا بالكحول، فاذهب إلى مكان لا يبيعها.
• إذا كنت مدمن تسوق، فاذهب إلى مكان ليس فيه (مولات) وأماكن للتسوق.
• إذا كنت مدمن نساء، فاذهب إلى مكان ليس فيه نساء.
• إذا كنت متعلقاً بمشاهدة الأفلام بشكل مبالغ فيه، فاذهب إلى مكان ليس فيه سينما قريبة.
لماذا الخلوة؟
أحد أهداف هذه الخلوة فك ارتباط النفس بما تعلقت به من مُلهيات في الحياة اليومية، والعقل مبرمج على الذهاب لما أدمن عليه لو كان قريباً منه، حتى لو حاول الإنسان الإقلاع عنه، وكلنا جرب هذا.
إذا تقـرر مـثـلاً أن تقـلـع عـن الحلويات، ثم بعد أسبوع تجد الحلوى فـي المنزل، فلا تقاوم، وتعود إلى أكلها، وتقرر الإقلاع عن التدخين، ثم في أول جلسة أصدقاء تأخذ سيجارة من صديق، وتدخن، وهكذا في العادات كلها قربها منك يسهل العودة إليها؛ ولذلك يجب في الخلوة أن تكون بعيدة تماما عنك، فإذا اشتهيتها لم تجدها، وبالتدريج يفـك هذا الارتباط وهذا الإدمان؛ إذ إن قوة الإرادة وحدها ليست كافية للتغلب على الإدمان؛ لذا يجب الابتعاد عن المؤثرات مدة، فذلك عنصر مساعد.
لماذا ٤٠ يوما؟
أريـد خـلـوة تُسبب تغييرًا جذرياً في حياتي، ومن أراد تغييراً جذرياً عليه أن يتخذ قرارات جذرية. ما دفعني إلى اختيار رقم أربعين في الخلوة - بحسب اجتهادي - أن هذا الرقم مكرر مرات عدة في القرآن، والإنجيل.
- فالطوفان في قصة نوح عليه السّلام استمر ٤٠ يوما، وهو تغيير جذري لتزكية الكرة الأرضية بأكملها.
- ولقاء الله عزوجل بموسى عليه السّلام ٤٠ يوماً ليعود بالألواح، ولتزكية نفسه ليواجه بني إسرائيل.
وفي كثير من الأحداث، وهو مربوط بتغيير جذري حاصل على مستوى الفرد أو المجتمع.
- وضياع بني إسرائيل في الصحراء كان ٤٠ سنة؛ لتزكيتهم قبل دخول الأرض المقدسة، وقد تعرض القـرآن الـكـريـم لـهـذا الموضـوع، فـرسـم صـورة الـقـرار الإلـهـي الـذي تلقاه موسى عليه السلام بحـق أولئك البشر، وبأنهم سيتيهون (٤٠) سنة، قال تعالى: (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ) (المائدة:1).
• ويقال: إن بوذا جلس تحت الشجرة ٤٠ يومًا قبل أن يصبح بوذا (The enlightened one)
• والأربعـون يومًا موجودة في حديث البراءة من النار والنفاق: «من صلـى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق».
الله لا يريد منا الكمال، ولكن يريد السعي المستمر نحوه.
• وقال أحد العلماء: «ما أخلص عبد قط ٤٠ يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».
ويبلغ الإنـسـان قـمـة العطاء في الأربعين من عمره أو ربيعه، قال تعالى: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ) [الأحقاف:15]. إذن، فالرقم مكرر في مناسبات وموضوعات فيها تغيير جذري، أو استعداد لأمر عظيم، ولـهـذا اخترت الأربعين يوما ليس ابتداعا، ولكن اجتهادًا مني واستئناسًا بهذه الأحـداث، وبهذا التكرار الواضح للرقـم الـذي لا يخلو من دلالة وغاية فيما أرى. وفي النهاية كل شخص يختار المدة التي تناسبه، ويراها معينة لمسعاه، واختياري هذا ليس ملزماً لأحد.
أهداف الخلوة
لدي أهداف واضحة أريد أن أخرج بها من الخلوة بإذن الله، وهي:
ا. تهذيب النفس والإقلاع عن بعض العادات السيئة التي تأصلت في، ولم أستطع الإقلاع عنها، فهناك عادات سيئة كثيرة لازمتني أكثر من عشرين سنة في حياتي، ولكن استطعت الإقلاع عنها، ولله الحمـد، فأمـلـي أن يكـون الـ ٤٠ يوماً سبباً في التحسين المستمر بإذن الله، فكلما تخلـى الإنـسـان عـن ضـعـف مـعـيـن ظـهـر له ضعف آخـر أصغر منه كان مخفيا عنه، وهكذا سنة التحسين المستمر لا تنتهي.
2. الوصـول إلـى حالة السـلام الداخلي التي عبر عنها القرآن بـ (النفس المطمئنة)؛ فالإنسان في صـراع داخـلـي مـسـتمر، وكلمة صـراع تتطلب وجود جهات متصارعة عدة... كيف؟ السبب هو أن الإنسان مكون من أجزاء عدة... ثلاثة تحديداً. وهذه الأجزاء الثلاثة لديها احتياجات مختلفة، ويكـون فـي بعـض الأحيان- تناقض بين هذه الاحتياجات، وهنا يحصل الصراع..
.3 تقييم الماضي، فبعـد ٤٢ سـنـة علـى هـذه الأرض أحتاج إلى أن أقيم حياتـي عـبـر هـذه السنين قراراتي، ومشروعاتي، وتعاملاتـي، ومبادئي، كلها تحتاج إلى تقييم؛ للاستفادة، فالحياة العملية أهم مدرسة، ولكن الاستفادة من هذه المدرسة لا يأتي إلا بالتفكر والتحليل، وأخذ العبرة من الماضي لتحسين المستقبل.
الطامة الكبرى: المذنب الذي يعتقد نفسه من المقربين، ولا يرى ذنبه أصلا.
5. التخطيط للمستقبل، الأفكار كثيرة، ولا يمكن أن يقرر الإنسان قرارات مصيرية كهذه في وسط زحمة الحياة اليومية ومشاغلها!
6. القراءة، فبسبب الانشغال الشديد في أعمالي خلال السنوات الماضية لم أستطع ترتيب عادة القراءة بالشكل الذي يرضيني، فقلت قراءاتي بصورة كبيرة جداً في آخر أربع سنوات، واشتاق عـقـلـي إلـى لـذة طـلـب العـلـم، وعلـيـه فـإن الخلوة فرصة لذلـك أحضرت معـي جـهـاز (kindle) (كيندل)، ووضعت عليه خمسة وأربعيـن كتاباً في مجالات مختلفة، ولا أعلم كيف سيكون معدل قراءتـي اليومي، ولكن بالتأكيد ستكون أيامًا مليئة بالمتعة القرائيـة بإذن الله.
اشحن نفسك بدورة روحية من العزلة عن الناس والتكنولوجيا وليكن رفيقك الذكر والكتب.
تكون مدتها يوما إلى ٤٠ يوما بحسب الاستطاعة.
اضافةتعليق
التعليقات