أخرج كومة من القمصان وبدأ يلقي بهم واحدا تلو الآخر أمامنا، قمصان من الكتان الخالص، والحرير السميك، ومن النسيج الصوفي الرقيق، التي فقدت طياتها وهي تسقط لتغطي الطاولة في فوضى من الألوان الكثيرة. وبينما كنا نبدى إعجابنا بها، كان هو يجلب المزيد، وارتفعت الكومة الناعمة الفخمة عاليا - قمصان ذات خطوط، وزخارف، ونقوش، بالألوان المرجاني، والأخضر التفاحي، والأرجواني، والبرتقالي الفاتح. وفجأة، وبصوت متوتر، وضعت دیزی رأسها بين القمصان وبدأت تبكي في ثورة عارمة.
قالت بغصة بصوت مكتوم في الطيات السميكة، وهي تبكي: "إنها قمصان رائعة الجمال، وما يحزنني أنني لم أر مثل هذه القمصان الجميلة من قبل". إف. سكوتفيتزجيرالد، جاتسبي العظيم F.Scott Fitzgerald, The Great Gatsby لم يأخذ هذا المشهد من جاتسبي العظيم إلا بالكاد دقيقة، وفيه يشاهد ديزي ونيك كاراوى مضيفهم وهو يضع أكواما من القمصان المثيرة للإعجاب على الطاولة أمامهم، لكن يعتبر هذا المشهد، في كثير من الجوانب، مركز الكتاب، القلب المؤلم والضخم للشهية الأمريكية الجشعة.
يقول جانسبي لضيفيه إنه لا يشتري القمصان بنفسه؛ فهناك "رجل في إنجلترا" يرسل له مختارات من الملابس في بداية كل فصل ربيع وخريف، تأتي القمصان في كل موسم بوفرة رائعة، في جميع الألوان، والتصميمات، والأقمشة، وهي ذات تكلفة عالية.
عدد كبير من القمصان، أكثر، كما نتصور، من التي يستطيع أي رجل أن يرتدي في فترة حياته، ومع ذلك فإنها لا تكفي أبدا، لماذا بكت ديزي بتشنج عندما رأت هذه القمصان؟ لأن، مما لا شك فيه، أن لديها شهوة ساذجة للأشياء. لكن أيضا، قد يشك المرء، أنه، بما أن القمصان جميلة ووفيرة، فيمكن ألا يكون هناك عدد كاف منها لإرضاء رغبتها، الذي يعلم الله وحده رغبتها لماذا، ورغبات دیزی بسيطة للغاية بالمقارنة برغبات جاتسبي نفسه، الذي يملأه كل الحنين، وكل الشـوق لأشياء مثل القمصان، أو مثل ديزي، وهو ما يعتقد أنه السعادة الأمريكية. يكمن فيها سر أن تمتلك أو لا تمتلك، هذا هو جوهر النزعة الاستهلاكية في أمريكا، ومحرك الرأسمالية الغربية .
أن تمر بلحظة يوصلك فيها الحصول على ما يسميه جورج کارلین George Carlin "أشيـاء" إلى نـوبـة مـن الـبـكـاء لأن هـذا "الشيء"، ومهمة الحصول عليه تذكرك بالأشياء التي ليست لديك، أو تلك التي لم تحصل عليها بعد. إن التشويق الذي تعيشه في الحاضر يجرك إلى ما كنت ترغب فيه في الماضي، ثم يدفعك بعد ذلك إلى الدعاء أن يتحقق في المستقبل. فالأشياء موجودة وغير موجودة. إنه أساس غريب لأي حـضـارة، ولكنه أسـاس فـعـال. إن 90% من قوة العمل الأمريكية هي، بشكل مباشر أو غير مباشر، في الأعمال التجارية لإنتاج السلع الاستهلاكية، والخدمات. وتشكل المنتجات الاستهلاكية ما نحن عليه. وتؤدي إلى تكوين معظم دخل البلاد والعمل. تسافر هذه المنتجات إلى بلاد لديها أقل، أو لا شيء من هذه المنتجات الكثيرة، وتأتي معها الرغبة في الحصول على المزيد، حتى تصبح هذه البلاد في يوم ما تجد نفسها أيضا، عن طريق الشراء والإنفاق، تمتلك أو لا تمتلك. إذا فليس الأمر أن دافع الامتلاك هـو بدون مزايا، ولا لأن العمل به يصاحبه الندم، أو إعادة النظر من الناحية المعنوية. في أمريكا إعادة النظر المعنوي هو جزء من العملية الاستهلاكية. نحن لا نعرف فقط كيف نمتلك أو لا نمتلك؛ بل نعرف أيضا كيف يكون ذلك في الاتجاهين، فيما يتعلق بالآثار الأخلاقية للشهية المفرطة.
في كل عصر، خاصة عصر مثل عصرنا هذا، من الازدهار الاقتصادي، يقوم هؤلاء الذين يتبنون وجهه نظر لوم المستهلك، بتقديم الشعور بالذنب كمسكن للألم. في منتصف عام ١٨٠٠، وجه لنا كل من رالف والدو امرسون Ralph Waldo Emerson، وهـنـرى ديـفـيـد تـورو Henry David Thoreau لـومـارقـيـقـا وقـدم الاقتصادي الأمريكي ثورستين فيبل Thorstein Veblenاسما "لاستهلاكنا الواضح" وألقى باللوم على "ثقافتنا المفترسة (1) وفي الآونة الأخيرة، في فبراير عام ١٩٩٨، حذرت هیلاری رودهام کلینتون Hilary Rodham Clinton، في المنتدى الاقتصادي العالمي في ديفوس، بسويسرا من أن "الرأسمالية الاستهلاكية" تقوض هـذا الـنـوع مـن أخـلاقـيـات الـعـمـل، وتؤجل الإشـبـاع...
وحتى تعبيراتنا عن النـدم لها تأثير ذو حدين. نحن نتحدث عن "الإفلاس الأخلاقي" و"الفقر العاطفي" عندما ننتقد ثقافة الإسراف في الإنفاق، كما لو أن مسائل الروح، مثل السلع الأخرى، يتم فهمها بشكل أفضل باستخدام مصطلحات مالية. وتكشف لنا اللغة أننا نعني اعتذارنا وأننا لا نعنيه. وكيف يمكن أن يكون خلاف ذلك؟ فأمريكا لم تتحول إلى أقوى حضارة في التاريخ بالتخلي عن السلع المادية. ومع ذلك، بعد إبداء الاعتذار وقبول المبررات، فإن ما يدفع النظام هو التناوب الدائم والمستمر بين التملك والتطلع، والذي في رأيي، يجعلنا في حالة مستمرة من عدم السعادة، سواء كنا نشعر بذلك أم لا، حالة نحن في الواقع نسعى إليها.
إن حالة عدم الامتلاك تقدم حدا، شيئا قد نصل إليه، أو لا نصل إليه. وعندما نفذت منا الحدود الحقيقية، جعلنـا الحـد أشياء أخرى لا تمتلك. أصبحت الثقافات الغربية الأخرى غنية، لكن يبدو أنها كانت قانعة بهذا الغنى؛ وتستقر عندما تصل إلى الحد الأعلى.
اضافةتعليق
التعليقات