كسائقٍ سابقٍ لأحدِ شركات سيارات الأجرة أستطيع أن أقولَ إني عرفتُ الكثير عن الكثير ممن لا أعرفهم، لكن إن سألتني عن إن كانَ أيّ منها قد حفرَ مكانهُ في داخلِ أعماق ذاكرتي لليوم فكل بساطة سأجيبك بالتالي...
في أحدِ ليالي البرد القارصة الخاصةِ بشهرِ يناير وعند اقتراب نهايةِ عملي لذاكَ اليوم، وأنا في طريقي للعودة للمنزل ومض هاتفي الصغير بإشعارٍ لطلبِ توصيلٍ من مكانٍ ليس ببعيد عني.
لا أخفيكم إني قد كنت تعباً جدا لكني طمعت بأجرةٍ إضافيةٍ لذاك اليوم.
نقرت بإصبعي على اختيار الموافقة على طلبِ التوصيل، وصلت إلى المكانِ المقصود بعد أربعِ دقائقَ لا أكثر، خارج المطعم الكبير الذي لا يستطيع أن يدخله امثالي، أقف أمامه الآن بسيارتي الصفراء المتهالكةِ هذه وهناك يقف شابٌ لا أعتقدُ أن عمره قد تجاوزَ الخامسةَ والعشرين.
ما إن رأى علامة الشركة على سيارتي حتى بدأَ التقدم نحوي بهدوءٌ وبطؤ شديدين، ما إن دخل السيارة حتى بدأ يطيل النظر في عيني، شعرت أن روحي مكشوفةٌ لعيناه لوهلة، قال لي بهدوء وبصوت كدت أن لا أسمعه أنه يريد مني جولة بطيئة في السيارة يقابلها السعر الذي أريد.
ما إن تحركت السيارة حتى بدأ بإنزال الشباك القريب منه ومد كامل جسمه من السيارة، لم أقلْ شيئا إلا أنني لم أرَ شخصاً بكامل وعيه يفعلها في يناير، استمر على ذلك لنحوِ عشرِ دقائقَ ربما، أدخل جسده ورأسه وقال لي أنه كان في احتفال صغير مع جمعٍ من أصدقائهِ بمناسبة أنه سيكمل حياته في الخارج.... صمتَ لوهلةٍ ثم أردفَ قائلاً: "هم لم يعلموا أن ما قصدته بالخارج ما هو إلا العالم الآخر" علمت من بقية حديثه أنه علمَ حديثاً بإصابتهِ بسرطانِ الدماغ في مراحلهِ الأخيرة وألا أمل له.
بدأت عيناي تسقط كماً متتالياً متسارعاً من الدموع، أعتقد أنه كان يتحدث لي عن آمالهِ وأحلامهِ التي كان يبنيها لحياته إلا أن عدادَ العمرِ الخاصِ به شارف على الانتهاء، لم تتبق له فرصة لعيش يناير المقبل حتى، لم يعد بإمكانه النظر إلى عائلته بذاتِ نظرةِ الاعتياد أو أن يتذوق طعامه بذات الملل والرتابة، أن تعلم بقرب نهايتك هذا بحدِ ذاتهِ يمنحكَ نظرةً خاصة لكل محيطكْ، نظرة تعطيكَ درساً مكثفاً لفهمِ قيمةِ ما تملك.
وما فائدة الإدراك المتأخر!
أخطأوا حينَ قالو أن تصلَ متأخراً خيراَ من أن لا تصل، وصولي لهذا الإدراك الآن لا فائدة تُرجى منه.
اضافةتعليق
التعليقات