بعد فشل محاولات تطبيق نظريات علم اجتماع البلدان المتقدمة على بلدان العالم الثالث، بدأت تظهر ملامح علم اجتماع خاص بالبلدان النامية. اتخذ الأمر أولاً طابع الافتراضات النظرية والأفكار القبلية التي لم تؤيدها الحقائق الميدانية.
ثم من خلال الاحتكاك المباشر أخذت الخصائص الاجتماعية للبلدان النامية تتضح تدريجياً. وهنا أيضاً انطلقت الأبحاث من المستوى السطحي على شكل رصد لمحكات التخلف الاجتماعية الاقتصادية، ثم سارت شيئاً فشيئاً على طريق النظرة الدينامية. محكات التخلف الاجتماعية عديدة أهمها المحكات الاقتصادية والإنتاجية، (الاقتصاد هزيل المردود، تبديد الثروات وسوء استغلالها، سوء استغلال الطاقة العاملة المتوفرة، اختلال البنى الاقتصادية، تصنيع محدود وغير كامل، تضخم وطفيلية القطاع الثالث، وضعية التبعية الاقتصادية)، يضاف إليها محكات خاصة بالسكان، وأخرى متعلقة بالبنى الاجتماعية أما السكان فيتصفون بعدة خصائص أولية، أهمها على الإطلاق في نظر «لاكوست» الانفجار السكاني الذي يشهده العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية. بعض بلدان العالم المتخلف يتضاعف عدد سكانه خلال خمس عشرة سنة، وبالتالي فسيزيد أربع مرات خلال السنوات العشر التالية.
تنشأ هذه الزيادة الهائلة من عدة عوامل، أهمها انخفاض المستوى الثقافي، وانحسار نسبة الوفيات بين الأطفال نتيجة للقضاء على الأوبئة والأمراض الفتاكة جماهيرياً بفضل العقاقير الحديثة رخيصة الثمن، وصغر سن المرأة عند الزواج، ما يجعل فترة الإخصاب متسعة المدى. يقدر بعض الباحثين مسيرة الأمومة عند المرأة في العالم المتخلف بحوالي عشرة أولاد بينما هي حوالي النصف أو الثلث في العالم المتقدم. وعلى عكس هذه الزيادة الهائلة فإن الموارد الاقتصادية لا تزيد القدر نفسه، ما يخلق اختلالاً متزايداً في التوازن بين عدد السكان والموارد المتوفرة، ويؤدي إلى مآزق اقتصادية يضاف إلى ذلك كله، ويضاعف من خطورة اختلال التوازن بين عدد السكان والموارد، ثم هناك الكثير من أشكال البطالة المقنعة، أهمها كثرة عدد الموظفين أو العاملين في مهمات لا تحتاج لهذا العدد، وتضخم عدد الخدم والعناصر الرديفة. المهم الارتزاق وليس الإنتاج، مما يفتح السبيل عريضاً أمام الوساطات والاستلزام، عوض أن تكون الكفاءة المقياس. هي واجتماعية متنوعة تسير نحو تفاقم الخطورة مهددة بالكوارث. يزداد الاختلال نظراً لقلة الإنتاجية النابعة من الأمية المتفشية ولسوء التغذية، وقلة العناية الصحية والنظافة. هذه العوامل الأخيرة تساعد على تفشي الأمراض المزمنة التي تهدد الصحة وتستنزف قوى اليد العاملة، مما يجعل إنتاجية العامل متضائلة باضطراد. كما أن غزو الأمراض المزمنة لصحة العامل، تجعله يخرج بسرعة كبيرة نسبياً من دائرة الإنتاج، دافعة إياه إلى الهامش المهني، إلى الطفيلية والبطالة المقنعة.
وأهم من ذلك هناك مقاومة للتغيير تنبع من تضافر نظرة رضوخية إلى العالم الطبيعي (الرضوخ لسيطرة البيئة والقوى الماورائية)، مع بني اجتماعية ذات نمط تسلطي تنشأ شخصية ذات بنية تسلطية، مما يخلق نظاماً العلاقات يتصف بالسيطرة والامتثال فيعرقل عملية التغيير من خلال سد السبيل أمام ظهور قوى الرفض ، على رغم أن هذا الباحث يؤكد على خصائص هامة للبلدان النامية من حيث تحكم المرتبية الجامدة فيها، وانتشار بنى التسلطية ـ الرضوخية، فإن الكثيرين يأخذون عليه رد هذه البنى إلى التقليد والسلفية.
إن في ذلك الرد نوعاً من التستر على حقيقة المشكلة التسلطية التي تتحكم ببلدان العالم الثالث، ولا تعود إلى التقليد بقدر ما تعود إلى تحالف قوى معاصرة داخلية وخارجية ضد القطاع الأكبر من السكان، خالقة بذلك ظاهرة بنية التسلط ـ الرضوخ معاصرة تماماً، أو هي قد استفحلت في هيمنتها وآثارها السلبية منذ ظهور الاستعمار بأشكاله المختلفة. إنها ظاهرة سياسية في نهاية المطاف، تتميز بالقهر المفروض على مجمل السكان في البلدان النامية. يتحدث الاكوست» عن هذه الظاهرة تحت عنوان «البنى الاجتماعية القامعة والمولدة للشلل» (ص 73 وما بعدها). فمن الخصائص الأساسية قطعاً للبلاد النامية، التعارض الحاد والصارخبين الغني المفرط لقلة السكان، وبؤس غالبيتهم التفاوت العنيف مميز لكل البلاد النامية.
وهذا من بين القلة ذات الامتيازات المفرطة، والغالبية البائسة، تقوم علاقات إقطاعية أو شبه إقطاعية. العلاقات الاقتصادية بين المستخدم ورب العمل لا تقوم على العقد، بل تتصف بالتبعية. يرتبط الفلاح بمالك الأرض، والعامل بصاحب رأس المال، في علاقات شبه عبودية تفرض عليه الرضوخ، إذا أراد ضمان قوته والاطمئنان ليومه وغده. مالك الأرض هو السيد بالنسبة للفلاح، يجد هذا الأخير عنده الحماية (من خلال الرضوخ والاستلزام) من بعض غوائل الطبيعة والناس. مصير الفلاح أو العامل مرهون برب عمل واحد، ليس له حرية الحركة في عمله أو في إقامة اتفاقياته. إنه رهن اعتباط قانون السيد، ولا بد له إذا أراد تجنب التشرد أو الاضطهاد من البقاء في حالة التبعية هذه، لا يملك من خيار إلا الانتقال من الولاء لسيد إلى سيد آخر. هناك أيضاً التبعية للمرابي الذي يقيد بالديون المزمنة. هذه التبعية تنتقل من الريف إلى المدينة، ومن مجال العمل الزراعي واليدوي أو الصناعي إلى مجمل العلاقات الإنسانية، العلاقات التسلطية نفسها في كل مكان. وترسخ السلطة الرسمية علاقات التبعية هذه من خلال أنظمة الحكم، ذات الطابع الاستبدادي إجمالاً (ديكتاتورية، تسلط فردي، ثيوقراطية، الخ... ) فليس هناك ديمقراطية (أي علاقات مساواة وتكافؤ) في البلدان النامية. كما ترسخها الإدارة الفاسدة التي تخدم أغراض وامتيازات القلة.
ويتوج الكل جهاز شرطة وجيش قمعيين أساساً. هذه القلة متوجهة نحو الخارج إجمالاً، ومتحالفة تقليدياً مع الاستعمار، القديم منه والحديث. ولقد أدى هذا التحالف إلى توليد أنظمة اجتماعية اقتصادية هجينة ذات سطوة كبيرة.
فلقد تحالفت قوة رأس المال والتكنولوجيا مع قوة الإقطاعي المستمدة من استعباد الفلاح والعامل. وهكذا تحول الصناعي الأوروبي إلى رأسمالي قامع مستعبد، وتحول الإقطاعي إلى رأسمالي مهيمن بشكل مزدوج بشريا ومالياً. واكتسب كلاهما قوة ندر أن تمتعا بها قبل قيام هذا الحلف. هذه القوة المهيمنة على الإنسان والإنتاج، هي لب البنية الاجتماعية وهي المعطل الأول لنمو البلدان المتخلفة، لأنها أفقرت تدريجياً القدرة الإنتاجية والشرائية لمجموع السكان، وحدت من قدرة السوق المحلي. كما أنها المسؤولة عن الحد من الخدمات والتقديمات الحيوية، (التعليم والصحة والتجهيزات الحضرية والريفية) مما يفاقم مشكلة التخلف.
وتلتقي النظرة الاجتماعية للتخلف إذا مع النظرة الاقتصادية، كما تلتقي كلتاهما مع النظرة التقنية، وحتى السطحية كما رأينا من العرض السابق، في أن لب مسألة التخلف هو بنية تتصف بالقمع والقهر، بالتسلط والرضوخ، أي بحرمان الإنسان من إنسانيته.
اضافةتعليق
التعليقات