تتعاقب أحداث الحياة، تُظلمُ تارة، وتُنيرُ تارةً أخرى، تتكاملُ مع بعضها البعض لتوصل المرء إلى حقيقةٍ لا مفرّ منها، ألا وهي أن "كُلُ شيءٍ هالِكٌ إلا وجَهه". تقعُ أموراً قد تهدّك، تُزلزل وجودك، تُثيرُ فيك حُزناً مُجلجلاً، كأن لا أنفاس تُستساغ بعده، ثم تفطِن إلى أن كلُه بعين الله، فتسلّم الأمر له.
في الصيف المُنصرم كنتُ قد اشتريت طيوراً أربع، طيورٌ ملونة صغيرة ومبهجة للنظر، وقد عقدتُ معهم صداقة وطيدة، لقد أضافوا شعوراً طيّباً في أرجاء المنزل، ينتشرُ صوت زقزقتهم فيلوّن الأثير من حولنا. لكُلٍ منهم شخصية متفرّدة تختلف عن صاحبه، أحدهم مشاغب مرح، كثير الحركة ولا ينفك يزعجُ الآخرين بنقرةٍ أو حركةٍ ما، والآخر صامتٌ كثير الطيران، يتباهى بقدراته الجناحيّة بغنج. بينما الثالثة تشبه البطة في مشيتها وتجلسُ في الأرجوحة الخاصة بها داخل القفص ولا تكاد تغادرها إلا حين تدخل لبيتها الخشبيّ الصغير، وتشبه الرابعة الصفراء صغار الدجاج، نحيلة وقليلة الحيلة لا نشاطات مميزة لديها. لكُلٍ منهم اسم، ولكُلٍ منهم ميزته الاستثنائية.
صباح الأمس وبعد أن تجهزّتُ للذهاب إلى العمل، مررتُ على المكان الذي هم فيه، حيثُ يقيمون في قفص أُبقيه مفتوحاً يخرجون منه ويرجعون إليه وقتما يشاؤون. للوهلة الأولى، أرتجف قلبي، أحدهم مفقود! شُلّت أنفاسي وأنا أراه ملقىً على أرضية القفص، ممدداً ومتحجراً، جناحيه مضمومان نحو جسده، كان منكباً على وجهه... لم أتمالك نفسي ولم أدرِ ما أفعل. بدأتُ أبكي كالأطفال، تهطلُ دموعي تباعاً دون توقف، يا إله هذه الروح، ماذا أفعل! كان أهلي نائمين، الصباح لا يزال باكراً، ولقد فُجع قلبي به. أردتُ أن أضمره في التُراب بأسرع فرصة ممكنة، أردت مواراة جسده الأخضر الصغير، وحيث أننا لا نملكُ حديقة، لففته بمنديل ووضعته خارج المنزل، لم أشأ أن يبقى قرب الآخرين، فإن الحيوانات تتألم عند الفقد وتبكي روحها ... أخبرتُ أبي أن يدفنه لاحقاً، وقد فعل، وندمت بعدها لأني لم أحتفظ بريشةٍ منه...
تساءلت، إن كانت أجسادنا نحنُ البشر تتحلل وتتآكل، فهل يحدثً الأمر ذاته مع الريش؟ هل تتحول أداة الحرية لسجنٍ خانق؟ هل يأكل التُراب تدرجات الأخضّر المصفر؟ وكيف تخرُج روح طيرٍ صغير مثله، كيف بدأ الأمر، وكيف انتهى؟ وفي أي ساعةٍ من الليل ارتحل مهاجراً نحو الأبدية المُطلقة؟ وهل سينتظرني هناك؟ هل سيظهر أمامي شغبه ومرحه كما اعتاد أن يفعل؟ هل سيتذكرني؟ كنتُ أغازله وأحاكيه كأنه طفلي المدلل... قد لا يفهم أي شخص لا يملك علاقة وثيقة بنوع أو عدة أنواع من الحيوانات هذا النوع من المشاعر، لكن للحيوانات قدرة عجيبة في جعل القلب يأنس بها.
لم أملك يومها إلا التوكّل، تذكرتُ مناماً رأيته قبل فترة، كان فيه صوتُ تلاوةٍ خاشعة لسورة الرحمن، وقد تكرر مقطع "كُلُ من عَليها فان" مرات عدّة، وقد علِق في مسمعي منذ ذلك اليوم. فكُلُ من عليها فان، وكلُ شيءٍ هالكٌ إلا وجهه، وكلنا أرواحٌ مجسدة، تعيشُ شطراً من قدرها ثم ترتحل، وآهٍ أيها الطائر الأثير، هلا تنتظرني هناك؟ أعدُك، سأكونُ روحاً خضراء مثلك.
اضافةتعليق
التعليقات