الجهل بالشيء لا يُورث الاطمئنان له، بل عادة ما يُورث لصاحبه القلق والتردّد والخوف والاضطراب والرعب، كما هو الحال في الطرقات المظلمة التي لم تُسلك من قبل فإنّه إذا ما كُلّف البعض منّا بالسير فيها فانّه سوف ينتابه الخوف والتردّد عادةً، ولا شكّ أنّ هذا الخوف والتردّد ناشئان من الجهل بالطريق لا من مخاطره لأنّها بحسب الفرض غير معلومة، وهذا الجهل ليس ذا مرتبة واحدة كما أنّ المعرفة ليست ذات مرتبة واحدة.
ومن هنا يتّضح لنا أنّ ذلك الخوف والتردّد سوف تختلف مراتبهما بحسب اختلاف مراتب الجهل والمعرفة، فإنّ التناسب سوف يكون طردياً وفي نفس الآن عكسياً ولكن من جهتين وزاويتين، فكلّما اشتدّت درجة الجهل ازدادت درجة الخوف ــ طرداً ــ وقلّ الاطمئنان ــ عكسا ًــ ، وكلّما ازدادت درجة المعرفة بالشيء ازداد الاطمئنان وقلّ الخوف.
ولأجل نكتة الجهل بالشيء تجد الأطفال يخافون كثيراً من الذهاب إلى الطبيب، ويكرهون شرب الدواء كثيراً، وما ذلك إلاّ لأجل جهلهم بأهمّية الطبيب والمصلحة المترتّبة على الذهاب إليه والفائدة المتوخّاة من شرب الدواء، وأثره في دفع الآلام عنهم.
وهكذا الحال في موضوع الموت، فانّ من أعظم أسباب الخوف منه والكراهية له هو الجهل به وعدم الوقوف على حقيقتهِ.
ما هو الموت؟ وهل الموت يعني الفناء والعدم أم أنه تحول وانتقال من مكان إلى مكان ومن عالم إلى عالم آخر؟ هذا السؤال كان على الدوام ولا يزال يجول في خاطر جميع البشر، وكل إنسان من دون استثناء يودّ أن يحصل على الجواب الصحيح لهذه المسألة.
الموت في نظر القرآن الكريم ليس عدماً بل هو انتقال من حياة إلى حياة أخرى، ومن عالم إلى عالم آخر، هو انتقال من دنيا محدودة وفانية إلى عالم واسع خالد وغير محدود وخالد. يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في وصيته لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "واعلم يا بنيّ أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا".
فالموت في واقعه مرحلة من السير التكاملي للإنسان نحو الآخرة والرجوع إلى الله عزّ وجل، كالجنين الذي يعيش مدّةً من الزمن في ظلمات الرحم ثم يخرج إلى الحياة لتبدأ رحلة جديدة من التكامل. وقد أجاب الإمام الجواد عليه السلام لمّا سئل عن حقيقة الموت بالقول: "هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلا أنه طويل مدّته، لا ينتبه منه إلا يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يُقادِر قدره ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره، فكيف حال فرح في النوم ووجل فيه؟! هذا هو الموت فاستعدّوا له".
وقال رجلٌ لجعفر بن محمّد عليه السلام: "يا أبا عبد الله إنّا خُلِقنا للْعَجَبِ، قال وما ذاك الله (لله) أنت، قال: خُلِقنا للفناء، فقال: مه يا ابن أخ خُلِقنا للبقاء وكيف تفنى جنَّة لا تبيد ونار لا تخمد، ولكن قل إنّما نتحوّل من دار إلى دار".
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً في حقيقة الموت قال: "أيها النّاس وإنّا خُلِقنا وإيّاكم للبقاء لا للفناء ولكنكم من دار إلى دار تُنقلون فتزوّدوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه".
يعتقد أهل السبيل وعشاق الله ان الخوف على ثلاثة أنواع:
الخوف الطبيعي:
الخوف الطبيعي أيضاً وكسائر الحالات الواقعية الأخرى، من الخطوط الأصلية للنفس ويستفاد من هذه الحالة لحفظ النفس من حوادث كالمرض، وحوادث السير، والابتعاد عن منطقة الخطر، وكيفية مواجهة الحيوانات المفترسة، والزلزلة، والرعد والبرق، والسيل والرياح العاتية.
إن لم توهب هذه الحالة النفسانية الرفيعة إلى الإنسان، ولم يخف الإنسان على نفسه من كل تلك الحوادث والوقائع، لم يكن بصدد حفظ نفسه وعندئذ لم يكن ليأمن من أي حادثة وكانت حياة الإنسان على الكرة الأرضية في معرض الفناء.
الإنسان الذي يخشى من وقوع المرض، أو لدى الاصابة بالمرض، يخشى هلاكه، فيتوقى وقوع المرض، أو ينهض عند الألم والتوجع للعلاج والخشية، وهذا الخوف يكون سبباً لمراعاة الإنسان مبادئ الصحة في كل المجالات.
الذي يتنبأ بوقوع الزلزلة، والعاصفة والسيل أو هجمة الحيوانات عليه وعلى برامج حياته سوف تعينه حالة خشيته وخوفه منها، كي ينهض لصد ومكافحة الخطر المحتمل من أي نوع. ولا ينبغي معاتبة أي انسان لأجل هذا الخوف؛ إذ إن هذا الخوف هو أحد أفضل أدوات مكافحة الحوادث.
الخوف المذموم:
الخوف المذموم خوف لا علاقة له بالمسائل ذات المخاطر وكما لا ربط له بالمسائل الإلهية العليا مثل الخوف من عذاب اليوم الآخر، أو الخوف من مقام وهيبة الحق تعالى، بل سبب ذلك التصورات الباطلة والوهم والخيالات الباطلة بشأن بعض الأمور، مما ينشأ عن التخيلات والاوهام التي وبأدنى تأمل يدرك الإنسان أن خوفه مما لا طائل تحته وهو حالة غير منطقية.
معلم الأخلاق الكبير، المرحوم المولى مهدي النراقي، قد شرح الخوف المذموم بشكل مفصل، وتقرؤون أدناه خلاصة ذلك:
1 ـ الخوف هو أمرٌ وقوعه حتمي، ولا يتمكن الإنسان اطلاقاً منع ذلك، مثل الأجل الطبيعي وهو محتم بالنسبة إلى الإنسان وأبيه وأمه وذويه وباقي البشر، وأولاده ورفاقه وأصدقائه، فالإنسان الخائف من الآن؛ أي نفع يعود عليه هذا الخوف، أو أي ضرر يبعده ذلك عنه.
كيف يمكن لهذا الخوف أن يعينه بعد حادثة حتمية الوقوع، لا ثمرة للإنسان من هكذا خوف سوى الأسى والمشقة للبدن وعذاب الروح والاضطراب في الفكر والتعقل. وينبغي القول: لا سبب لهذا الخوف في وجود الإنسان سوى الغفلة والجهل.
أسباب الخوف من الموت:
أولاً: الوحشة من أن الموت ينهي كل شيء، طبعاً هذه الوحشة تخص الماديين الذين هم عبدة الدنيا، الغارقين في لذات البطن والشهوة، أولئك المتمسكين بهذه الدنيا الفانية بكل وجودهم، ولا يعرفون غير ذلك شيء؛ ولا يحبون سوى ذلك؛ وكل طلباتهم هو لهذا اليوم. هؤلاء في وحشة شديدة من الموت، إذ إن الموت في خيالهم الفاسد، هو سقوط في بئر العدم. ويخيل إليهم أن الموت ختام كل العلائق وسبب انفصام كل الصلات وتبعثر خطوط الأنس!!
لكن علاج هذا الخوف ومداواة هذه الخشية ليس أمراً صعباً على أولئك، عليهم أن يتفكروا قليلاً في ثقافة الأنبياء وحياة الأولياء (عليهم السلام)، كي يتضح لهم من مجموع هذه الحقائق أنه ودون شك أن بعد هذا العالم، هنالك عالم آخر يقال له عالم الآخرة وأن خط العدل الذي امتد إلى كل أجزاء الخلقة، يقتضي حتمية وقوع ذلك العالم ولولا ذلك لم يكن ليصر الله العظيم في القرآن الكريم ومائة وأربعة وعشرون ألف نبي صادق القول واثنا عشر اماماً على وجود عالم الآخرة، فعلى هؤلاء أن يتفكروا أن المعاد وأمور ما بعد الموت، هي أحد أهم أسس الدين وأنه من تجليات العدل الإلهي في ميدان الخلقة.
والاعتقاد بعالم الآخرة من أكثر العوامل المؤثّرة في اصلاح الأخلاق والعمل، ولا يتصور أن المؤمن بعالم الآخرة الذي هو مستفيد من ايمانه في سبيل تهذيب وتزكية النفس، أن يكون خائفاً من الموت ومستوحشاً من حلوله.
إذن فالخوف من الموت على أنه ختام كل شيء، لا سبب له سوى الجهل بالحقائق، وهو خوف مذموم غاية الذم ومستقبح قد رفضته آيات الكتاب والسنة.
ثانياً: الخوف من أن مع الخروج عن هذا العالم يصاب بألم ووجع لا مثيل له في الدنيا، هذا الخوف أيضاً عبثي وفي غير محله؛ إذ لا يصح الخوف اليوم لتوجع غد، بما أن الألم من عوارض الجسم، فسواء خاف الإنسان أو لم يخف فالبدن عرضة للألم والوجع، سواء كان السبب ألم المرض أو كان السبب في التوجع من خروج الروح من البدن، إضافة لهذا، على الإنسان أن يتحلى بحقائق الإيمان والعمل الصالح، فأفضل ساعاته هي حين خروج روحه عن هذا العالم؛ ودخول العالم الآخر، فهل تبقي لذة مواجهة ألطاف الحبيب وشوق لقاء حضرة المعشوق مجالاً لاستشعار الألم؟
فإلإنسان المؤمن يُخاطَب لدى الموت بخطاب:
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.
فهل يبقى له مع ذلك ألم وتألم؟
هذا الألم هو عين اللذة والسرور، لا تخف في هذا الخصوص اطلاقاً؛ إذ إن عاشق الحق تعالى لا يفكر بغير الحق، وتحمل ذلك القدر من الألم حين التحليق نحو الحبيب سهل جداً، ولا داعي لخوف المؤمن من هكذا آلام.
(لا تئنوا من الألم فرجال درب الحبيب، يعايشون الألم ولا يطلبون الدواء)
ثالثاً: الوحشة من أن الموت يكون سبباً لنقصان وبطلان خط الحركة نحو الكمال.
فهكذا خوف ينشأ أيضاً من الجهل بحقيقة الموت والواقع الوجودي للإنسان، الذي قد تحلى بمعرفة حقيقة الموت ومعرفة واقع الإنسان، فهو يعلم أن الموت متمم الإنسان ومكمل اثاره الإيجابية.
كيفيّة الخلاص من هذا الخوف تحت الحد المسموح:
أما كيفيّة التخلّص من الخوف من الموت فعبر خطوات أولاها تكمن في إدراك حقيقة الموت كما تقدّم، لأنه يقلّل إلى حدٍّ كبير عامل الخوف منه. والخطوة الثانية بعد معرفة حقيقة الموت هي بالاستعداد كما في الحديث "هذا هو الموت فاستعدّوا له". والاستعداد للموت يكون من خلال الإيمان والاعتقاد الصحيح بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي لا يبتغي منه المرء إلا وجه الله تعالى والتقرّب إليه، كذلك وتذكّر الموت دائماً والاتّعاظ به وبمجرياته.
وفي رواية أخرى عن الإمام الجواد عليه السلام قال: "والذي بعث محمداً بالحقّ نبياً إن من استعدّ للموت حق الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا العلاج، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدي إليه الموت من النّعم لاستعدوه وأحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات".
وعن كيفيّة الاستعداد للموت يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول أكثروا ذكر الموت فإنّه هادم اللذّات، حائل بينكم وبين الشّهوات".
وعنه عليه السلام: "إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل النّدى والخير".
وفي رواية أخرى، قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: "ما الاستعداد للموت؟ قال عليه السلام أداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال على المكارم ثمّ لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، والله ما يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه".
اضافةتعليق
التعليقات