مازلت أتذكر الصورة الذهنية التي رسمتها مخيلتنا الغضة عن بلد الرافدين ونخيله الباسقة، جنان مصغرة على الأرض، حيث الأشجار المثمرة والثمار النضرة والأنهار الرقراقة، ومازلت أتذكر اللحظة التي وطأت أقدامنا أرض الوطن، خارج مطار بغداد أول صفعة هواء لفحت وجوهنا، لم نعلم حينها أنضحك أم نبكي؟ هل ما نشعر به من حرارة حقيقي أم هو من تهيؤات التعب، كان الليل قد أرخى سدوله آنذاك فلم نبصر بقية التضاريس مع غياب الكهرباء.
ولكن أين الأنهار وأين الأشجار وأين الأهوار؟ أسئلة تكررت على مسامع والدينا الذين حارا جوابا، ثم تدريجيا اكتشفنا أن كائنا واحدا سبّب غياب كل هذا الجمال الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في الأرض، نعم إنه الإنسان، كم هي سهلة لديه كلمات اللامبالاة: وإن، الكل يفعل ذلك، هل توقف الأمر عندي، ما الذي نستطيع فعله، البلد خربان، مجرد ورقة..... إلخ من سيل التبريرات التي يأباها الدين والعقل والذوق والفطرة السليمة.
إن هذه الورقة الملقاة من نافذة سيارتك، والكيس الذي ترميه بكل برود في أقرب مجرى مائي، وكأس الماء البلاستيكي المنثور في أغلب الشوارع، وأكوام النفايات التي تسندها لجانب الحاوية الفارغة، هذه الأمور الصغيرة هي التي صنعت جبال الأوساخ وجلبت الحشرات والأمراض والروائح المنفرة، فكم من طفل أو شيخ أو امرأة أصيبوا بألوان الأدواء جراء ذلك، وكم من الذنوب -التي لا نعدها ذنوبا- قد تحمّلنا إصرها؟
والغريب في الأمر أننا نلوم غيرنا على حالنا، في الوقت الذي صنعنا بأيدينا هذا الواقع، وننتظر من الجهات المختصة الإسراع في لملمة ما نثرناه وتنظيف ما قمنا بتوسيخه، وفي أفضل الأحوال ندفع الملايين لنستمتع بمشاهدة الطبيعة الخلابة في دولة جارة، ونندب حظنا أن ولدنا في هكذا بلد!
وقد علمنا أن كفران النعم من الذنوب التي تغير النعم، ونرى اليوم التلوث البيئي في أعلى مستوياته برا وبحرا وجوا، أنهارنا تحولت إلى مستنقعات آسنة، العواصف الترابية زادت نسبتها لقلة الغطاء النباتي الذي يقف صادا لها، هواؤنا تلوثه كثرة العجلات دون قوانين تحد انتشارها، وكلنا مسؤول فهلّا تنبهنا وهلّا وجهنا أجيالنا القادمة لضرورة الاهتمام بالبيئة فهي أمانة الله سبحانه عندنا، وهي بيتنا الكبير الذي نعيش فيه، فإن لم تتعاضد الأيادي ولم تستنفر العقول قبل الأجساد لإيقاف المد الجارف من التلوث فلا نلومن إلا أنفسنا، وهذا يشمل الجميع دون استثناء، فالمرأة ليس مطلوبا منها أن تمسك مقشة وتكنس الشارع وليس مفترضا على المسن ذلك ولكن لكل شخص دوره فإن لم يباشر بنفسه العمل فلا بأس أن يحض ويشجع القادرين على العمل كالزوج والأولاد والأقارب والأصدقاء، وعلى أقل التقادير إن لم تستطع التنظيف لا تلقِ بالأوساخ، فقد جاء في حِكم السالفين: "لا تبصق في البئر فقد تشرب منه يوما".
لنسع جهدنا إذا في رسم صورة مشرقة نباهي بها الأمم عن ميزوبوتاميا اليوم، ولنعد مجدها وحضارتها ورونقها الأخاذ، لتغدو أيقونة الجمال بأنهارها الرقراقة وأشجارها المثمرة وثمارها النضرة.
اضافةتعليق
التعليقات