بإطلالة سريعة للكتب الروائيّة نجد أن أغلبَ الموروث الروائي يرجع للإمام الصادق (صلواتُ اللهِ عَليه)، ومن إطلالة أخرىٰ علىٰ كتب السّير نرىٰ أن السبب في ذلك هو أن إمامته كانت في فترة انشغال الدولة الأمويّة بالصراع مع الدولة العباسيّة الفتيّة، ثم تسلط الأخيرة علىٰ دفّة الحكم والخلافة المزعومة.
تلكَ الفترة من الصراعات وانشغال الحكّام ببعضهم أتاحت للإمام الصادق (صلواتُ اللهِ عَليه) طرح فكرهِ ورؤاه للساحة الشيعية المتعطشة، وفي الوقت ذاته قدمت فرصة عظيمة للشيعة حينها لينهلوا من نمير هذا البيت _الذي ما ولجَ الخطأ عموده_ دونَ خوفٍ أو وجلٍ من مضايقات السلطات الحاكمة. _وإن كانت هذهِ الفترة أيضًا محدودة وكأبائه لم يسلم من جور الحكومات فقد تم حرقُ داره ومضايقته كثيرًا وأخيرًا بدسّه السّم!_.
وقد جمعَ أصحابه المتقربونَ إليه والراوونَ عنه دروسهم في أربعمائة كتاب وسموها ”الأصول الأربعمائة“.
وهذا الشيخ المفيد (قدس ﷲ نفسه) يقول في إرشاده: فإن أصحابَ الحديث قد جَمعوا أسماء الرّواة عنهُ من الثقات علىٰ اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل.(١)
ولا يزيده (صلواتُ اللهِ عَليه) كثرة الراوونَ عنه رفعةً وشأنًا وإنما يزداد الرواة فضلًا وعلوَ شأنٍ بالرواية.
والجدير بالذكر أن الروايات التي وردت عنه (صلواتُ اللهِ عَليه) كانت في أبوابٍ ومواضيعَ شتّى ولم تقتصر علىٰ الفقه _وإن كانَ الفقه تنظيم شامل لحياة الفرد_ فهل والحال هذهِ نحجّم هذا الموروث الروائي ونبقيهِ مطمورًا بين الطروس وزوايا المكتبات!.
لا للقراءة الجزئيّة:
من الأخطاء التي يقع فيها الكثير منا هو أن نقرأ حياة أهل البيت (صلواتُ اللهِ عَليهِم) قراءة جزئيّة غير منصفة، والحال أن حياتهم حياة شاملة لكل أبعاد الحياة، فلا يصح أن نقرأهم من جانب ونهمل الجانبَ الآخر.
فازدهار الفنون والعلوم في عصر الإمام الصادق (صلواتُ اللهِ عَليه) يُلزم علينا الخوض فيها واستخراج مكنوناتها والاستفادة منها في كل حين لا مجرد التنظير والدعوة ثم نبقى نحلمُ بمجيء من يستفيد من تلك الكنوز عمليًا!.
وإن كانَ قد برزَ في عصرنا نخبة من علماء الغرب وأساتذتهم ببحوث أكاديمية حول الإمام الصادق (صلواتُ اللهِ عَليه)، واضطلعت بها جماعة ستراسبوغ/ مركز الدراسات العليا.. تحت عنوان (الإمام الصادق كما عَرفهُ علماء الغرب).
لا لقراءة الأهواء والمصالح:
هنالكَ من يقرأ حياة أهل البيت وفقَ مصالحهِ ويفسّر مواقفهم وفقَ آرائهِ، بل إنه يعمد إلىٰ حديثهم ويحاول تطبيقه علىٰ ما تبناهُ من رأي أو عقيدة أو مسلك؛ تبريرًا لما قصده، أو تمويهًا علىٰ العامة!.
وإن أردنا الإنصاف فمثل هذا _إن صح التعبير _ يعد أقلُ فداحةً ممن يؤلف الروايات ويشيعها بين الناس دعمًا لمواقفهِ والتي ليسَ لها أي وجود في الكتب الحديثيّة بل إنها من نسجِ أفكاره وإملاءات هواه!.
نعم للقراءة الحيّة لا الميتة:
يلزمُ علينا أن نقرأهم قراءة واعية متصلة بواقعنا المعاصر، _فعلىٰ سبيل المثال لا الحصر_ تجد اليوم الكثير ممن يبحث عن دروس التنمية البشرية مثلًا، فهل نجد بينها دعوىٰ جادّة لدراسة كتاب العِشرة من البحار أو الكافي؟، مع أن فيه ما يؤسس للكثير من القواعد الأخلاقية والاجتماعية.
هل اطلعنا علىٰ وصايا الإمام الصادق (صلواتُ اللهِ عَليه) للمفضّل، واتخذناه شعارًا للدعوة إلىٰ التوحيد من بابٍ آخر هو باب الدلالات الكونية والنفسيّة وكم توغل الإمام فيهما بشكل لا يدعُ مجالًا للشك في وحدانية الخالق بعدَ إخباره بهذه الدقائق عن عجيب صنعه!.
ماذا عن رسالتهِ (صلواتُ اللهِ عَليه) لشيعتهِ والتي أمرنا بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها، هل تعاملنا معها كما فعلَ الشيعة في زمانه؟
ينقل الشيخ الكليني في الكافي الشريف بسندهِ معنعنًا عن جابر عن أبي عبد اللّٰه الصادق (صلواتُ اللهِ عَليه) «أنهُ كتبَ بهذهِ الرسالة إلىٰ أصحابهِ وأمرهم بمدارستها والنظرِ فيها وتعاهدها والعمل بها فكانوا يضعونها في مساجد بيوتِهم فإذا فرغوا من الصلاة نَظروا فيها..»(٢).
أهل البيت حركة تكامليّة:
فكل واحدٍ منهم يكملُ دورَ الذي سبقه، ويزاولهُ حينًا بعدَ حين ويرعاه، وهم يرجعون إلىٰ النقطة التي لا ينبو منها شك ولا اشتباه بل إلىٰ منتهى الصواب والحقيقة، إلىٰ خالق هذا الكون والعالم بكل جزئياته وهل عالمٌ أعلم بما خلقه هو؟.
وهم (صلواتُ اللّٰهِ عليهم) ينقلون لنا لوامع الدرر ومنابع الحكم في ذلك الأسناد الذي لا يرقاه إسناد في الكون، تلك السلسة الذهبية التي ذكرها الإمام الصادق (صلواتُ اللهِ عَليه) في قوله لجابر بعد أن طلبَ منه أن يذكرَ له أسانيد ما يحدثهُ به فقال (صلواتُ اللّٰهِ عَليه): «حدثني أبي، عن جدي، عن رسول اللّٰه (صلواتُ اللهِ عَليهم)، عن جبرئيل (عليهِ السلام)، عن اللّٰهِ عز وجل، وكل ما أحدثك بهذا الاسناد» (٣).
وعنهُ (صلواتُ اللهِ عَليه): «أما أنّه ليس عند أحد من الناس حقٌ ولا صوابٌ إلا شيءٌ أخذوه منّا أهلَ البيت، ولا أحدٌ من الناسِ يقضي بحق وعدل إلا ومفتاح ذلك القضاء وبابه وأوّله سُنّة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإذا اشتبهت عليهم الأمور كان الخطأ من قبلهم إذا أخطأوا والصواب من قبل علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذا أصابوا»(٤).
فلنسعىٰ جميعًا لرسمِ حياةٍ موسومة بطابعٍ حقيقي يستمد جذور واقعه منهم وننأى عن كل ما من شأنه أن يعيق تلك المسيرة وأن نبذلَ في سبيلها الجهد الجهيد؛ فلو اتبعنا ما اختطه لنا أهل البيت عليهم السلام لأكلنا من فوقنا ومن تحت أرجلنا، ولكنا اليوم ننعمُ بالنِعم الماديّة والمعنوية، بدلَ أن نتطلعَ إلىٰ ما يُمليهِ علينا غيرنا الذي استفادَ من تراثنا ونبذناهُ نحن!.
اضافةتعليق
التعليقات