حاول البشر التعرف على شخصيات بعضهم البعض منذ قرون، من الإغريق إلى شكسبير، وحتى في أفلام هوليود؛ إذ يقول البروفيسور بريان ليتل، أستاذ علم الاجتماع بجامعة كمبريدج "كل شخص منا هو من بعض النواحي مثل كل الأشخاص، أو مثل بعض الأشخاص، أو لا يشبه شخصا آخر".
ويضيف في افتتاحية محاضرة عن "لغز الشخصية" إن هذه الطريقة تعد من أكثر الطرق تأثيرا في علم نفس الشخصية، باعتبارها تضم كافة السمات المؤثرة على نمط عيشنا ومسار حياتنا، كما أنها تجعلنا مختلفين أيضا.
واكتشف باحثون من جامعتي ميتشيغن وأوريغون -بعد أن أجروا مسحا على آلاف المبحوثين في سبعينيات القرن الماضي- أن معظم سمات الشخصية البشرية يمكن أن توصف من خلال خمسة أبعاد، هي: الانفتاح، والضمير الحي، والانبساط، والموافقة، والعصبية. فيما عرف "بسمات الشخصية الخمس الكبرى" (OCEAN)، حيث تتشكل هذه الكلمة من الحروف الأولى للسمات الخمس بالإنجليزية.
سمات الشخصية الخمس
سمات الشخصية حسب "اختبار السمات الخمس الكبرى" هي:
1- الانفتاح، وهي سمة تميز الذين يحصلون على درجات عالية من الانفتاح على تجارب الحياة، ويحبون الحركة والخيال والإبداع، من خلال (الخيال، والجماليات، والمشاعر، والمغامرة، والأفكار، والتحرر).
أما من يسجلون درجة انفتاح منخفضة، فهم أكثر تقليدية في تفكيرهم، ويفضلون التمسك بعاداتهم، ولديهم قناعة بأن الأمور إما أن تكون صوابا أو خطأ، ولا وسط بينهما.
يقول ليتل "الانفتاحيون يحبون التحفيز والصخب، وعندما يتفاعلون فإنهم يرغبون في قدر أكبر من التقارب والتواصل البصري، ويستخدمون لغة بسيطة؛ لذا يؤثر عليهم الكافيين أكثر من تأثيره على الانطوائيين، الذين يميلون إلى المصادفة والتفسيرات المعقدة والكلمات المراوغة".
2- الضمير الحي، وهو سمة تقيس تحكمنا وضبطنا وتوجيهنا لدوافعنا، من خلال الإحساس بالكفاءة، والتنظيم، والالتزام، والنضال من أجل الإنجاز، وضبط الذات، والحذر. فالذين يحصلون على درجات عالية منها يكون لديهم إحساس قوي بالواجب، وهم منضبطون وجديرون بالثقة. أما غير المسؤولين الذين يتشتت انتباههم بسهولة، فيأتون في ترتيب منخفض.
3- الانبساط، بمعنى المرونة، وهي أكثر السمات التي تقيس التفاعل مع الآخرين، من خلال الود، والاجتماعية، وتقدير الذات، والنشاط، والبحث عن الإثارة، والابتهاج. ومن يسجلون درجات عالية منها هم فراشات اجتماعية، مولعون بالمبادرة والتواصل. أما الذين يحصلون على درجات متدنية من هذه السمة فيميلون إلى الانطواء والتحفظ، ويكونون أكثر خضوعا للسلطة.
4- الموافقة، وهي سمة تقيس مدى دفء الشخص ولطفه، من خلال الثقة، والاستقامة، والإيثار، والتعاون، والتواضع، والتعاطف. فكلما كان الشخص أكثر قبولا، زاد احتمال ثقته ومساعدته وتعاطفه. وعلى النقيض، فالذين يسجلون درجات منخفضة في هذه السمة هم الأشخاص المريبون الأنانيون والمستبدون، الذين لا يمكن معارضتهم فيشككون في الآخرين ويقل احتمال تعاونهم.
5- العُصابية، وهي سمة تقيس قابلية الشخص للاضطراب العصبي أو الاستقرار العاطفي، من خلال القلق، والغضب، والاكتئاب، والتدقيق بالذات، والانغماس، وقابلية التأثر. فنجد الأشخاص الذين يسجلون درجات عالية منها قلقين ومثبطين ومزاجيين وأقل ثقة في النفس. وعلى النقيض من ذلك، يميل الأشخاص الأقل درجات في سمة العصابية إلى الاستقرار العاطفي والتوازن.
العوامل المؤثرة
لكل فرد شخصيته الفريدة أو المميزة التي يختلف فيها عن الآخرين. وتعد "الوراثة" على رأس العوامل المؤثرة في هذا الاختلاف، فهي التي تؤثر في تحديد الخصائص الجسمية للفرد، وفي تكوين جهازه العصبي الذي يلعب دورا مهما في تحديد سلوكه. إلى جانب "الملامح الثقافية والاجتماعية" التي تشكلها منظومة القيم والخبرات التي تهيئ للشخص فرص التعلم والتعبير عن الذات. بالإضافة إلى "العوامل الضمنية اللاشعورية" المحركة للسلوك وآليات الدفاع الأولية، مثل الكبت والنكوص والتقمص والتبرير والصراعات النفسية والإحباط والعقد النفسية.
ولكن، هل يمكن للشخصية أن تتغير؟ يجيب عالم النفس الاجتماعي في جامعة إلينوي برنت روبرتس، الذي شارك في دراسة من 207 ورقات بحثية، نشرت عام 2017، ووجدت أن الشخصية قد تتغير بالعلاج؛ "إذا كنت على استعداد للتركيز على جانب واحد من شخصيتك لإعادة النظر فيه بشكل منهجي، فهناك احتمال متزايد لإمكانية إحداث تغيير في هذا الجانب".
نماذج للاختبارات
إذا كنت تبحث عن فهم أعمق لجوهرك الحقيقي، فأمامك مجموعة متنوعة من اختبارات الشخصية المتوافرة على الإنترنت، من بينها -على سبيل المثال- نماذج مبسطة وسريعة لاختبار الشخصية بالصور، ويحمل عنوان "اختبار شخصية.. أول شيء رأيته في الصورة".
ويعد اختبار "السمات الخمس الكبرى للشخصية" المعتمد من "معهد أوريغون الأميركي للأبحاث" من أكثر النماذج دقة، ويدعم اللغة العربية ولا يحتاج إلى تسجيل، كما يوفر فرصة إجراء مقارنة بين شخصيتك وأية شخصية أخرى.
ويتم الاختبار عبر الإجابة عن 120 سؤالا تستغرق نحو عشر دقائق. ويكمن سر هذا النموذج في بساطته، فهو لا يصنف شخصيتك، ولكنه يخبرك بموقعك ضمن سلسلة من السمات الشخصية، شريطة أن تلتزم الصدق وتفكر جيدا قبل الإجابة على الأسئلة، باختيار بديل واحد من خمسة بدائل، هي: موافق بشدة، موافق، محايد، معارض، معارض بشدة. حسب موقع الجزيرة
خصالك الشخصية لا يجب أن تقف عائقًا أمام تحقيق طموحاتك من أجل تحسين حياتك
وربما لو شاهدت ليتل، الأستاذ بجامعة كامبردج، في محاضرته الأخيرة في مؤتمر التكنولوجيا والترفية والتصميم، المعروف اختصارًا باسم (تيد)، التي حققت ملايين المشاهدات، ستجد محاضرًا يتميز بأسلوبه الأخاذ وسرعة البديهة يأسر عقول الحاضرين.
ولعلك ستظن أن ليتل شخص مُنفتح، فهو ليس بارعًا في حديثه فحسب، بل يستمتع بتوجيه خطابه للحاضرين أيضا. لكن في الواقع، لا يخفي ليتل أنه شخص انطوائي.
وربما ستجده بعد دقائق معدودة من الانتهاء من كلمته التي ألقاها أمام الناس منفردًا بنفسه خلف باب أحد المراحيض، التي يصفها في كتابه "أنا ونفسي ونحن" الصادر سنة 2014، بأنها من بين "الأماكن التي يلجأ إليها ليستعيد معنوياته"، بعد التظاهر بأنه شخص منفتح.
ويقول ليتل مفسرا إنه يمكنه أن يصبح منفتحا إذا أراد ذلك، لأنه يتبني "أنماطًا سلوكية عكس أنماطه السلوكية الحقيقية لبعض الوقت"، على حد وصفه، من أجل تحقيق "مشروعات شخصية" ستجلب الكثير من النفع للآخرين.
ويعد مشروع ليتل الشخصي في هذه الحالة هو تعريف طلابه والآخرين بقيمة علم نفس الشخصية بأسلوب جذاب.
ويرى ليتل أن هذه السمة لا ينفرد بها عن غيره، بل كلٌ منّا لديه القدرة على التصرف بشكل مغاير لسلوكه المعتاد بدافع تحقيق هدف شخصي مهم ومفيد.
وقد عكف ليتل وزملاؤه لسنوات طوال على دراسة كيفية تحطيم القيود التي تكبلنا بها خصالنا الشخصية الدائمة لكي نعيش حياة أسعد.
ولكي تفهم بحث ليتل، استقطع بعض الدقائق من وقتك لكتابة مشروعاتك، أو أهدافك، الشخصية الحالية، التي قد تكون على سبيل المثال، إنقاص الوزن، أو تحسين طريقتك في تربية حيوانك الأليف، أو تأليف كتاب.
وليس من الضروري أن تسهب في كتابة الأهداف، بل اكتب خطوطًا إرشادية فقط، وأغلب الناس يكتبون نحو 15 هدفُا.
والآن تأمل كل هدف على حدة للحظات قليلة، وتحديدا فكر في أهمية كل مشروع وماذا يعني لك؟ وإلى أي مدى يتوافق مع شخصيتك وقيمك، وهل سيجلب لك السعادة أم الضغط والإحباط؟
وتأمل أيضا الأسباب التي جعلتك تضع هذا المشروع، وما إن كان سيشاركك فيه أحد أم ستقوم به بمفردك، ومدى التقدم الذي حققته فيه حتى هذه اللحظة، وهل أنت واثق من أنك ستكمل المشروع إلى النهاية؟
وتصنف هذه الأسئلة ضمن الأبعاد الخمسة الرئيسية التي يقيسها تحليل المشروعات الشخصية، وهي الهدف، والقدرة على التحقيق، والتواصل (مع الأخرين)، والمشاعر السلبية، والمشاعر الإيجابية.
والآن ركز على عدد قليل من المشروعات الأكثر نفعًا والتي لا تتعارض مع قيمك أو هويتك. وهذه المشروعات يُطلق عليها المشروعات الجوهرية، والتي ربما تؤثر على سعادتك وصحتك.
ويقول ليتل في كتابه "أنا ونفسي ونحن"، إذا تعرفت على أهدافك الجوهرية ستزداد قوة وعزما، لأن المشروعات التي تضعها لنفسك تعكس إنجازاتك في الحياة، فضلًا عن أنها دائمة التغير، على عكس الخصال التي تميزك كشخص عن غيرك من الناس فحسب.
ولهذا عليك أن تتخيّر المشروعات الصحيحة، وحاول أن تحققها بالطريقة المناسبة، وبهذا ستثري حياتك بالمشروعات النافعة، وستشعر بالسعادة والرضا.
كيف تؤثر مشروعاتك على حياتك؟
كلما شعرت أن مشروعاتك الشخصية قابلة للتحقيق، أصبحت أكثر سعادة. وفي الواقع، اكتشف ليتل أن شعور المرء بالثقة بأنه قادر على تحقيق المشروع كفيل بجلب السعادة والرضا للشخص مهما قلت أهمية الهدف من وراء المشروع.
وبعبارة أخرى، فإن الشعور بالعجز عن تحقيق مشروع شخصي أساسي من أكثر مسببات الإحباط. وقد أثبتت نتائج الدراسات أن انخراط المرء في مشروع شخصي يصيبه بالإحباط والتعاسة قد يكون أشد تأثيرًا على صحة الإنسان وسعادته من عوامل أخرى مثل الفقر.
ولهذا من الأفضل أن تضع مشروعا رئيسيا واحدا أو أكثر على أن يكون بوسعك تحقيقها والمداومة عليها، وأن تحقق من وراء هذه المشروعات الكثير من الأهداف الشخصية، التي تعكس الأمور التي تمثل لك أهمية في الحياة.
وقد خلصت بعض الأبحاث إلى نتائج أخرى كثيرة يجب أن تؤخذ أيضا في الاعتبار، منها أن المشروعات التي تضعها لنفسك ستثابر على تحقيقها وتستمتع بها على الأرجح، إذا كانت لديك مبرراتك الخاصة لتنفيذها، ولا تنفذها فقط لترضي شخصا آخر، على سبيل المثال.
ومن المرجح أن يشعر المتزوجون والمتحابون بالسعادة معا إن كانوا يشتركون في بعض المشروعات الشخصية المماثلة.
والعجيب أنك بملاحقة مشروعاتك الشخصية ستحطم القيود التي تكبلك بها خصالك الشخصية، وهذه الميزة تحديدا ستعود عليك بالنفع. فقد أوضح بحث جديد أن الانطوائيين من أمثال ليتل يستمتعون بأداء دور المنفتحين لتحقيق مآربهم الخاصة أكثر مما يظنون.
ورغم ذلك، يحذّر ليتل من أن التظاهر بالانفتاح أو الانطواء قد يخلف آثارا سلبية على الشخص مع مرور الوقت، ولذا يجب أن يخصص الشخص لنفسه مكانا خاصا يعود فيه إلى حالته الطبيعية، مثل اختلاء الانطوائي بنفسه بعد مخاطبة الجمهور، أو اجتماع الشخص المنفتح مع الأخرين بعد يوم من الدراسة بمفرده. حسب بي بي سي عربي
اضافةتعليق
التعليقات