"الانسان اجتماعي بطبعه"، جملة ترسخت في أذهاننا منذ نعومة أظفارنا، والعلم في الصغر كالنقش على الحجر كما يقولون، لكن يبدو أن نظرية علماء الاجتماع هذه قد تغيرت في زماننا الحاضر، قد يكون السبب في مدى علمية وواقعية هذه الجملة أو طبيعة الناقش أو حتى الحجر الذي قُدَّ ربما من جليد ذاب مع الوقت وليس من صخرٍ كما كنا نعتقد.
لم يخطئ ابن خلدون في مقولته التي ذكرها في مقدمته عندما أكد أن طبيعة الانسان المتأصلة تميل إلى الاجتماع مع بني جنسه، فالله سبحانه وتعالى فطر البشر على حالة التفاعل والتعامل والعيش مع الآخرين، لكن في الوقت نفسه يشجع علماء النفس على الوحدة كونها تساعد على الانتاج العلمي والابداعي المكثَف الذي يفوق جودة الذي يعمل وسط مجموعة سواء كانوا عائلة أو زملاء.
وكذلك النصوص الدينية هناك الكثير منها تدعو الانسان لطلب الوحدة وإن اختلفت المسميات لها، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله كان يقضي الكثير من الوقت في غار حراء وقبل الديانة الاسلامية كانت اليهودية والمسيحية تعتبر الانعزال عن البشر قيمة سامية تساهم في بناء الانسان والبحث عن ذاته أو التعرف عليها.
وهنا نتساءل عن الذي ينشد الجلوس وحيداً في بعض أوقات يومه، هل هو خيار صحيح، وهل الانعزال بين الفينة والأخرى نمط حياتي سليم؟!
الجواب في الحقيقة يختلف من شخص إلى آخر ومن حالة إلى أخرى أيضا، وكذلك مبررات الوحدة ونتيجتها لها دور كبير في تحديد ذلك.
الوحدة بدايةً كالدواء قليلها ينفع وكثيرها يضر، فالجرعات العالية منها قد تؤدي إلى مرض نفسي وانعزال عن المحيط فالصعوبة بالتعامل معه بعد ذلك، هذه واحدة وأخرى إن الوحدة قد لا تصلح لذوي الأعمار الصغيرة من أطفال ومراهقين والعقول الصغيرة أيضا وإن كانوا كباراً في العمر، فإن كان الطفل انطوائيا ومن دون سبب مباشر أو غير مباشر فهذا قد يدل على حالة مرضية تستوجب المراجعة.
وأيضا طبيعة الانسان وطبيعة مهنته أو عمله أو حتى هوايته تحدد أهمية ووجوب الوحدة لساعات طويلة أو لا، فالمخترع والمكتشف والكاتب والرسام يختلفون عن المحامي والمعلم وغيرهم، فكلهم يؤدون نشاطا سواء لوحدهم أو مع الناس وهناك انتاجية تأتي من بعد انعزالهم لبعض الوقت سواء على الصعيد الشخصي أو النفسي أو المجتمعي العام.
إذن الأمر غير ثابت ونسبي، وحتى التشريعات الدينية نراها تدعو إلى الوحدة في حين كما في الاستيقاظ لصلاة الليل أو التفكر ومحاسبة النفس ومراجعتها وأيضا الاعتزال عن القوم الفاسدين أو بعد جحود الأهلين كما في قصة أصحاب الكهف والنبي عيسى، وفي حين آخر تشجع الناس على العمل الجماعي كصلاة الجماعة والحج وغيرها.
في الحقيقة نحن نحتاج إلى تقسيم عادل مع نفسنا واعطاءها الحق في الابتعاد وجلوسها لوحدها قليلا والتحدث معها بانفراد فذلك يبعث على الطمأنينة، وأيضا لا ننسى معاشرة الأخوان بالمعروف، فالوحدة في كثير من الأحيان تكون رحم كبير للابداع والانتاج المتميز وأيضاً قد تكون طلباً للراحة والابتعاد عن البشر قليلا، وما أجمل أن يقضي الانسان وقته وحيدا مع كتاب مثلاً أو أمام طبيعة يتأمل عظمة صانعها، وفي هذا الجانب يتفوق علينا الغرب، فليس هناك مشكلة لديهم إن رأوا أحدا يجلس لوحده في حديقة أو مقهى، أما عندنا فيعتبر ذلك جنونا أو ضعفا في الشخصية أو مرضاً نفسياً.
يقول الامام الصادق عليه السلام: فسد الزمان وتغير الأخوان فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد.
اضافةتعليق
التعليقات