في مقابل الحكمة المشهورة التي تحذّر من الاغترار والانجراف وراء المظاهر واحتسابها شيء ذات قيمة وعند الاقتراب منها نرى حقيقتها وزيفها وهي الحكمة القائلة: "ليس كل مايلمع ذهبا"!، قد نمر بمواقف ترينا وتُسمعنا حكم أخرى تقف على الطرف النقيض تماما منها، وإن تبدو ظاهراً وأحيانا تتشابه مع أختها في المبدأ ولكننا نستطيع تأويلها أيضا بصورة أخرى، ومنها التي تتداول باللهجة الدارجة: "مو كل مدعبل حبة جوز"!.
قد نفهم من هذه المقولة حكمة مفادها أن لاتحكم على كل شيء دائري بكونه جوزاً فقد يكون قطعة حجر لاقيمة له، وأيضا تضعنا الأيام في مواقف كثيرة تثبت صحة هذه المقولة ولكن بتفسير آخر وهو: قد يكون هذا الشيء حبة لؤلؤ نادرة أو جوهرة لاتقدّر بثمن وإن كان الظاهر باهتاً لايدل على ذلك.
حسناً متى نعرف ذلك، بالطبع بالتجربة أولاً وبالشدائد وكما يقال: عند الشدائد يظهر المعدن الأصلي، وإن لم نكتشف فلا نحكم سريعاً، وهناك عدة حالات مرت بنا أو بغيرنا تترجم ماقلناه عملياً من جهة ومن جهة أخرى تعطينا دروسا كثيرة تربّي النفس على عدة مفاهيم ومنها:
الألم الكبير.. لادموع له
إياك ثم إياك أن تحكم على مقدار سعادة أو حزن أحدهم عن طريق مظهره أو من خلال كلماته، المرأة الثكلى أو الأب المفجوع بابنهم مثلاً، لانملك أدنى حق في أن نقرر أن حزنهم لايتناسب مع مقدار مصيبتهم، وخصوصاً إن لم نمر بموقف مشابه لهم، تلك العين الجامدة والوجه القليل التأثر أو حتى بعض الأفعال قد تكون نتاج الصدمة وعدم التصديق وقد يفضلون البكاء بمفردهم أو بمعنى أجمل قد يكون نتاج قوة جاءت من التصبّر واحتساب كل الأمور إلى الله وذلك إن دل على شيء فهو يدل على الايمان الراسخ وليس اللا مبالاة كما نظن اعتباطاً!.
أفضل صدقة هي صدقة السر
فلان من الناس يملك أموالا لاتأكلها النيران، ونحكم عليه هكذا جزافاً بأنه بخيل أو جشع بدليل أنه لم يساهم في مشروع خيري ما مثلا، قد يكون ذلك فعلاً، وقد يكون على العكس فهو يفضّل أن يتصدق سرا لأنها أعظم أجراً، فعينه على المولى ويروم الاخلاص وليس الناس ومايقولون في كرمه وعطفه.
وفعلا كم من أشخاص لم يعرف الاخرون عن أعمالهم الخيرية إلا بعد موتهم!.
بين الخيال والواقع.. هناك حقائق مغبونة
عثر ماكس برود على قصاصة كتبها صديقه الكاتب في ساعة يأس ومعاناة من مرض السل، يرجوه فيها "رجاء أخير" بأن يحرق كافة مخطوطاته غير المنشورة، ومنها رواياته الثلاث، وذلك لأنها أيضا غير مكتملة. لكن لحسن الحظ لم ينفّذ برود وصية صديقه الذي لم يكن سوى "فرانس كافكا" الشهير الذي لم يستقطب أثناء حياته انتباه الناشرين والقراء.
نعم، فهناك الكثير من الاجحاف والغبن قد يقع نتيجة الحكم السطحي على أنفسنا أو غيرنا بسبب ضعف الثقة بالنفس أو اليأس.
بعد تلك الحالات، قد نعرف سبب تقدم الغرب عنا بعدة قرون ضوئية، فنجد أحد أهم أسباب تطورهم في أنهم يرون كل طفل مشروع مبدع، حتى وإن لم يملك مؤهلات النجاح، فالغبي ينظرون له كذكي، والذكي كعقبري، وهناك قول لأحد الخبراء في التجميل والذي يعمل في أحد دور الأزياء العالمية عندما سئل عن سبب نجاح عمله وأجاب بأنه يستطيع أن يحوّل القبيحة إلى جميلة، والجميلة إلى ملكة جمال!.
وهكذا ليس كل مانراه عاديا هو عادي، وليس كل مالايحرك إعجابنا هو قبيح أو فاشل أو سيء، ثمة اعتقادات تأتي من النظرة القاصرة وهي بحاجة إلى غربلة، وهذه الغربلة تبدأ بعدة أمور علينا أن نضعها في الاعتبار وهي أن لانحكم على الظاهر، وأن لانمارس التنظير من بعد، والايمان بأن الله وحده من يعلم الغيب ويزكّي الأنفس ويميز الصالح من الطالح.
اضافةتعليق
التعليقات