ارتجافة يدي لحظة سماعي إعلان النصر النهائي على دولة الخرافة الداعشية، وابتسامة ثغري الممزوجة بحبات الدمع الساخنة، المتسابقة لإرواء تجاعيد ملامحي المستبيحة لخمسة وستين عاما، حرّكتْ بين حنايا قلبي ذكريات ألغت قوانين الزمان والمكان، وعادت بي إلى وقت تلبيتي نداء الحق والسلام، بقتال وحوش بشرية، كشّرت عن أنيابها لنهش لحوم الأبرياء.
حينها عدت إلى منزلي وجمرة غيورة استعرت جذوتها في روحي، وتساؤلات دقت ناقوس الخطر، غضب عارم اجتاح سنيّ عمري، وأنساني ظروفي المعيشية، جلستُ أطالع عبر نافذة منزلي الخشبية حقليَ الصغير، وزرعه المرتويَ بقطرات عَرَقِ جبيني، يكاد الصمت يخيّم على الأرجاء، لولا صوت إعداد الخبز من قبل زوجتي، واحتراق الحطب في تنورها الطيني، (فأنا أسكن في منطقة ريفية من جنوب العراق)، غرقتُ في تفكيري واختنق الهواء في رئتي، فأنعشني صوت ولدي الوحيد (علي) بقوله:
- "السلام عليك أبي" جلس بجانبي واضعا يده على كتفي يحتضنني.
- "وعليك السلام بني" قلتها وأنا أرمُقه بنظرات لا تفسرها كل قواميس اللغات.
- خيراً أبي أراك منشغل البال!.
أجبته بسؤال: هل سمعت آخر الأخبار؟.
- أتقصد الفتوى؟.
- نعم.
- أجل سمعتها والعديد من أصدقائي قرروا تلبيتها.
هنا قاطعتُه بقولي: "وهذا ما أردت إطلاعَك عليه، فكما تعلم أن الجهاد هنا كفائي، كن مستعداً، فأنت رجل البيت من بعدي".
نظر لي بعينين سادهما الفضول، دون أن ينبس ببنت شفة، مرت الأيام، أكملت فيها دورة التدريب الخاصة بالمتطوعين، وحانت لحظة وصال سواتر العز، احتضنتُ ثمرة فؤادي وكأن العالم أصبح بين ذراعيّ، قبلته بين عينيه وأوصيته بأمه ونفسه خيرا.
قاتلتُ في أماكن عدة منها؛ منطقة الهياكل في مدينة الفلوجة، واشتد وطيس المعارك شراسة، والهدف واحد، إما نصر مؤزر أو شهادة عاجلة، لم أشعر وقتها بكِبَرِ سني، وكأن المشيبَ انقلب ليلا أدلم، وانحناءة ظهري استقامت، واستفز روحي صراخ الأطفال وبراءة نظراتهم الشاردة، وأعمدة النيران الملتهبة المتصاعدة من بيوت كانت آمنة.
أطأطئ الرأس حسرة، ودمعة حارقة تلمع في الأحداق، حين ألمح غطاء رأس حرة ملطخا بدماء الأحبة ويتعالى في مهب الريح، يروي حكايا يشيب لها رأس الرضيع.
أروي تلك المشاهد لزوجتي وابني حين عودتي إليهم، أرسم في مخيلتهم شجاعة من عشقوا الشهادة في سبيل الله، الذين لم يبالوا إن وقعوا على الموت أو وقع الموت عليهم، وفي قرارة روحي تغمرني السعادة بإنصاتهما لكل حرف أنطقُ به.
وبعد عودتي إلى المعسكر بيومين، تعرضنا لهجوم بسيارة مدرعة مفخخة، كان اليوم مغبراً عاصفا، ما أضعف فرصتنا في معالجتها بصواريخ (آر بي جي 7)، اقتربت السيارة من الساتر بشكل جنوني، غلت الدماء في عروقنا، مترقبين إحدى الحسنيين برحابة صدر ورباطة جأش، وفي تلك اللحظات العصيبة وذهولنا من الموقف، شقتِ الغبارَ بسالة شاب ارتدى رايةَ الشجاعة الحسينية، انطلق بسرعة وجرأة كبيرتين، ليقف وجها لوجه وبثبات كالجبل الأشمّ أمام طوفان النار المرتقب، أطلق صاروخه وجعل العدو كالفراش المبثوث، ليتهاوى بعدها جسده الممزق بالشظايا فوق ثرى وطنه المقدس، كأنه يسجد شكراً لخالقه الذي حباه بوسام الولاء والخلود الأبدي، فقلت بفخر: "هكذا الرجولة وإلا فلا، أفعال لا أقوال".
انجلت الغبرة والنار المستعرة في العجلة المفخخة، تعانق حر الصيف وتزيده لهيبا، أسرع رفاقه ليسعفوه، وبلا شعور عدوت خلفهم لعلي أحظى بتقبيل جبين هذا البطل، فمنعوني من الاقتراب؛ لأن وضعه حرج للغاية، ابتعدت وفكري مشغول بما دار من أحداث، أحضروا الجريح إلى المعسكر، وهم يتهامسون (إنه يلفظ أنفاسه الأخيرة)، فنزيف الدم لم يتوقف، خطَتْ قدماي بتثاقل فوق رمال حمراء كالياقوت، وأنا أسير بين جموع متجمهرة حول أسطورة عشرينية، رأيت قمراً توشح بدماء طاهرة، مسجّى على ظهره، ونزيف دمه يتدفق بغزارة من كل أنحاء جسمه، يأبى التوقف، كأنه يروي عطش الفرات.
اختنق الصراخ في حنجرتي كأنه يواسيني، وبكاء رفاقه بلغ عنان السماء، فسمعت صوتاً ضعيفاً متقطعاً يخرج بصعوبة مع أنفاسه اللاهثة سأقف مرفوع الرأس أمام من نادى: (ألا من ناصر ينصرنا؟) أغمضَ عينيه ببطء وهو يتمتم: (لبيك يابن رسول الله لبيك).
فاضت روحه بيننا، واعتصر الوجع قلوبنا، علا صوت نحيبنا، وأنا أقول: "ما أشبه اليوم بالأمس"، رفعت رأسي إلى السماء أرمقها بنظرة لوعة وانكسار، وأصرخ: "إلهي يا قوي، ألهمنا القوة والصبر".
بكينا كثيرا وأنا أحتضنه بحرارة، وفي تلك اللحظات، لاح لي كف مقطوع، ورضيع مذبوح، تحملهما امرأة بهيبة ووقار، كأنها تنظر لي وتقول: "هذه قرابين العقيدة".
انتفضتُ أرتعش، وفي جسدي قشعريرة غريبة أثلجت صدري، ورسمت على ملامح حزني ابتسامة جديدة لن تُهزمَ أبد الدهر، نهضت وأنا أقول لأصحابه "يا شموع الوطن! احملوا قربان العقيدة عاليا"، هَمُّوا بحمله فطلبت منهم التريث قليلا؛ فأنا أود أن أقبّله بين عينيه، وأشم عطر الجنان في نحره، انحنيت أمسح الدم والتراب من على محيّاه، فأشرق وجهه في عيني، فإذا به ولدي علي!.
اضافةتعليق
التعليقات