كثيرًا ما نظن أن بإمكاننا معرفة السمات الشخصية للمرء من طريقة مشيته، ولكن على الرغم من أن هذه الافتراضات قد تكون خاطئة، ربما تميط مشيتك اللثام عن الشيء الذي تحاول جاهدًا أن تخفيه.
وقد عكف علماء النفس على دراسة هذه الافتراضات لعشرات الأعوام، وتشير النتائج التي توصلوا إليها إلى أن تفسيرات أغلبنا للسمات الشخصية للغير، بناءً على مشيتهم، تميل إلى أن تكون متشابهة للغاية.
ولكن ما مدى دقة هذه الافتراضات؟ وما هي السمات الشخصية الأخرى التي قد نعرفها من مشية الشخص؟
دعنا ننظر أولًا إلى البحث الذي أُجري عن العلاقة بين المشية والشخصية، فقد نشر فيرنر وولف، وهو عالِم نفسيّ ألماني المولد، أولى الاستقصاءات في هذا الموضوع سنة 1935، حيث صوّر خمسة رجال وثلاث سيدات، من دون أن يدروا، إذ كانوا يشاركون في لعبة إلقاء الحلقات على قضيب ثابت، وهم يرتدون زي العمال الموحد، (لإخفاء أي جوانب أخرى قد تكشف عن شخصياتهم).
وفيما بعد، شاهد المشاركون شرائط الفيديو، التي جرى التلاعب فيها لإخفاء رؤوسهم، وقد حللوا شخصيات بعضهم بعضًا استنادًا إلى مشيتهم فحسب.
والأهم من ذلك، أن وولف وجد أن كلًا من المشاركين قد كون انطباعًا عن الآخر مستندًا إلى مشيته، كما وجد الكثير من التوافق في الأراء في معظم الحالات.
ولننظر إلى بعض الأوصاف التي جاءت على لسان بعض المشاركين، كلٌ على حدة، عن الحالة 45 على سبيل المثال:
متباه بنفسه بلا أي أساس، شخص يريد أن يستحوذ على الانتباه مهما كلفه الأمر، يتعمد أن يكون متغطرسًا، وهو يعي ذلك تمامًا، ويحاول جاهدًا أن يحظى بإعجاب من حوله، لديه شعور داخلي بعدم الأمان، ويحاول أن يُظهر لغيره العكس، أحمق، مُهمّش إلى حدّ ما، ولا يشعر بالأمان.
قد يبدو من المدهش أن نجد أن انطباعات المشاركين عن هذا الشخص وغيره متشابهة إلى هذا الحدّ.
ولكن، هذا البحث المبكر لا يخلو من المشاكل، نظرًا لقلة عدد المشاركين في هذه العينة، ووجود احتمال أن يكون المشاركون قد لاحظوا شيئًا آخر يُستدل به على السمات الشخصية، خلاف طريقة المشي (كما أن المشاركين كانوا يعروفون بعضهم بعضًا، على الرغم من أنهم لم يتمكنوا من تمييز المشاركين الذين ظهروا في مقاطع الفيديو بوضوح).
وباتت التجارب الحديثة أكثر تعقيدًا، ولا سيما بسبب التكنولوجيا الرقمية التي يمكنها تحويل مشية الشخص إلى عرض من النقاط المضيئة على خلفية سوداء، حيث تبين النقاط البيضاء حركة كل مفصل من المفاصل الرئيسية. وبهذا، نستبعد أي مؤثرات أخرى يمكن الاستدلال بها على السمات الشخصية غير حركة المشي.
تأرجُّح أم تمايُّل
وبالاستعانة بهذه الطريقة، توصل علماء النفس الأمريكيون في أواخر ثمانينيات القرن الماضي إلى أن هناك هيئتين رئيسيتين للمشي، تتميز إحداهما بأسلوب للحركة أكثر شبابًا والأخرى بأسلوب أكثر كهولة.
فالأسلوب الأول يتضمن حركة منتظمة أكثر نشاطًا وخفة، مع تمايل أكثر للأرداف، وتأرجح أكبر للذراعين، وخطوات سريعة متتابعة، أما الأسلوب الأكثر كهولة، فهو أكثر جمودًا وبطئًا، مع الانحناء أكثر إلى الأمام.
ولكن المشية لا تدل على نحو قاطع على العمر الفعلي للشخص، فقد تكون شابًا ولكنك تمشي كالكهل، والعكس صحيح. علاوة على أن المراقبين افترضوا أن أولئك الذين يسيرون بالأسلوب الأكثر شبابًا هم أكثر سعادة وأكثر قوة. ولم يختلف الأمر عندما تبيّن سنّهم الفعلي بالكشف عن وجوههم وأجسامهم.
ويوضح هذا البحث مرة أخرى مدى استعداد الناس دائمًا للاستدلال على السمات الشخصية للآخرين من رؤية طريقتهم في المشي، ولكن لم تتطرق الدراسة إلى مدى دقة هذه الافتراضات من عدمه.
ولهذا السبب، ننتقل إلى دراسة بريطانية سويدية نُشرت قبل بضع سنوات فقط، قارنت بين تقييم الأشخاص أنفسهم لسماتهم الشخصية وما افترضه الأخرون عن شخصياتهم بناءً على عروض النقاط المضيئة التي تبين حركة كل مفصل أثناء المشي.
وقد دلّت النتائج مجددًا على وجود طريقتين رئيسيتين للمشي، على الرغم من أن هذه الدراسة وصفتهما بمصطلحات مختلفة إلى حدّ ما: فقد قيل أن الأسلوب الأول يوصف بأنه واسع الخطى، وحر طليق، وقد فسّر ذلك المراقبون على أنه دلالة على حبّ المغامرة، وانبساط الشخصية، وجدارة الشخص بالثقة، والحنان.
أما الأسلوب الآخر فكان متمهلًا، ومتراخيًا، وقد فسره المراقبون على أنه دلالة على الثبات العاطفي. ولكن في الواقع، كانت استنتاجات المراقبين خاطئة، لأن هاتين الطريقتين المختلفتين في المشي لا تتلازمان بالضرورة مع هذه السمات الشخصية، على الأقل لأنها تتعارض مع تقييم هؤلاء الأشخاص لأنفسهم.
انطباع خاطئ
إن الرسالة التي نستخلصها من كل هذه الأبحاث مفادها أننا نتعامل مع مشية الشخص تمامًا كما نتعامل مع ملامح وشكل وجهه أو ملابسه أو لهجته، كمصدر للمعلومات عن طبيعة شخصيته.
بيد أن الشواهد تدل على أن تقييمنا للأشخاص بناء على شكل الوجه قد يكون أجدى وأنفع، لأننا نميل إلى تكوين افتراضات غير صحيحة استنادًا إلى طريقة المشي.
وهذا ينطبق، على الأقل، على أغلب الأحكام التي نكوّنها عن الأشخاص. إلا أن ثمة جانبًا مثيرًا للخوف لمسألة تكوين أحكام أكثر دقة عن بعضنا بعضًا استنادًا إلى طريقة المشي، وهذا الجانب له علاقة بمدى تأثرنا وضعفنا.
فقد أوضحت بعض نتائج الأبحاث الأولى أن الرجال والنساء الذي يمشون بخطوات أقصر، ويؤرجحون ذراعيهم بمسافة أقل، ويمشون بتمهل، أولئك يعدّون أكثر تأثرًا من غيرهم.
وهذا يتطابق مع الدليل المستنبط من قصص سابقة، فعلى سبيل المثال، رُوي أن تيد بوندي، وهو قاتل محترف، قال إنه يعرف ضحيته القادمة من الطريقة التي تمشي بها في الشارع.
والسؤال الذي يطرحه هذا المجال الذي أُجريت فيه الأبحاث برمته هو: هل من الممكن أن تعدل أسلوب مشيتك لتغير الانطباع الذي قد تخلفه لدى الآخرين؟
فتشير بعض الأبحاث إلى أنك قد تتعلم طريقة المشي التي تنقل بها رسالة لمن حولك مفادها أنك قوي وصعب المراس، وذلك بأن تمشي بخطى واسعة، وتُحرك ذراعيك بجسارة، كما يدل بعض الأبحاث على أن المرأة حين تشعر بأنها في مكان أقل أمنًا تستعين تلقائيًا ببعض العناصر من هذه الطريقة في المشي.
ولكن يقول علماء النفس الذين اختبروا الأنماط الشخصية المصاحبة للمشية واسعة الخطى أو البطيئة والمتراخية، إنه من غير الواضح على الإطلاق ما إن كان من الممكن تعلّم طرق مشي بعينها أم لا.
ولذا، فليس من الحكمة أن تبذل جهدك كبيرا لتترك انطباعًا جيدا لدى الغير، وإلا فإن هذا الإنطباع لن يعدو كونه محاولة مستميتة للتظاهر بالجرأة والثقة بالنفس، كما هو الوضع مع الحالة رقم 45 في الدراسة المذكورة آنفا.
اضافةتعليق
التعليقات