يعتقد الكثير بأن الإنسانية هي أصل الوجود، وإنها النقطة الأساسية التي تتفرع منها الأديان، وتقود الإنسان نحو فعل الخير، على أساس انها حاجة كونية تتكئ عليها البشرية في الحب والرغبات الإيجابية.
وفي الآونة الأخيرة نلاحظ انتشار الالحاد بين فئات كثيرة من الناس، وزيادة هذه النسبة في العالم العربي وبالأخص في المجتمعات الإسلامية توضح نقطة واحدة ومهمة جداً وهي ان الدين لم يسد حاجيات الإنسان المعنوية.
ولكن هل هذا يعني بأن المشكلة تكمن في الأديان نفسها، وان الإسلام على وجه الخصوص لم يستطع ان يلبي حاجات الإنسان؟.
بالطبع لا، لأن الإنسانية التي لا تقود الإنسان الى معرفة الله والتصديق به هي إنسانية ناقصة، امّا الدين الإسلامي هو دين كامل خلقه الله ليكون أسلوب حياة ويخدم الإنسان في حياته قبل مماته، ولكن من لم يجد التعامل والاستفادة من معطيات الدين بالطريقة الصحيحة ليس من حقه ان يتهم الدين بأنه غير قادر على تلبية الاحتياجات الشخصية.
فالحال كمن يشتري جهاز معين، لا يجيد استخدامه بالطريقة الصحيحة ولم يحاول ان يتعلم كيفية استخدامه او قراءة دليل الجهاز حتى، ثم يتهم الجهاز على انه غير نافع وغير جيد.
المشكلة تكمن في عدم فهمنا الكامل للدين الإسلامي الذي خلقه الله بأحكام ودساتير وعلوم تفي لكل زمان ومكان.
فالإسلام ليس عبادة فقط كما يتصوره البعض، ولا يقتصر على الصوم والصلاة وما الى غير ذلك من العبادات والفرائض، لأن الإسلام عقيدة حياتية متكاملة تقوم على إدارة الحياة بكل جوانبها وميادينها.
ونستطيع ان نقول بأن الإسلام يدعو العالم الى حسن العلم والارتقاء بالخير والمحبة، لأن كل عمل يقوم به الإنسان يحدد قيمة المرء، فالعمل الذي يقوم به الفرد المسلم يجب ان يكون نوعاً من العبادة، ولكن بشرط ان تكون الانطلاقة الاولى لعمله قربة لوجه الله والإسلام.
ورسول الإنسانية محمد (ص)، مثَلَ الإسلام بصورته الذي انزله الله على العالم، ولكن نحن من تخاذلنا عن نصرة الدين بتفاصيله واحكامه الرشيدة، وأصبحت بعض الفئات التي تجد الإسلام يضرب مصالحها الخبيثة تروج عن الإسلام بأنه دين العنف والقتل.
وما يجزم العالم عليه هو ان من أكمل مسيرة الرسول (ص) ومسيرة القرآن الكريم، هو علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الذي عرفته كل الأديان بأنه خليفة الانسانية والسلام، على وجه الأرض وعلى مر التاريخ.
ويروي الاديب المسيحي (جورج جرداق) بعض المواقف الفوق إنسانية للمولى علي (عليه السلام) في كتابه (علي وحقوق الإنسان)، تأكيداً منه على ان الإمام علياً (عليه السلام) هو الذي أعطى الإنسان قيمته الوجودية الحقيقية ورفعه الى مستوى التطبيق العملي لقوله: "العبودية جوهرة كنهها الربوبية"، والذي يعني عين قوله في حديث آخر له: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله سبحانه حُراً".
ويقول الأديب والمفكر (جرداق) في الصفحة (٧٨) من كتابه السابق الذكر: إن علياً (عليه السلام) أبى على جنده وهم في حالٍ من النقمة والسخط أن يقتلوا عدواً تراجع، وأن يتركوا عدواً جريحاً فلا يسعفوه. كما أبى عليهم أن يكشفوا ستراً أو يأخذوا مالاً.
ومنها أنه صلّى في وقعة الجمل على القتلى من أعدائه وطلب لهم المغفرة. وأنه حين ظفر بألد أعدائه الذين يتحينون الفرص للتخلص منه. وهم عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، عفا عنهم وأحسن إليهم وأبى على أنصاره أن يتعقبوهم بسوء وهم على ذلك قادرون.
وفي معركة صفين حاول معاوية وجماعته أن يميتوا علياً عطشا، فحالوا بينه وبين الماء زمنا وهم يقولون له: "ولا قطرة حتى تموت عطشاً!" ولكن ما كان موقف الإمام معهم بعد تلك الحادثة؟، يجيب (جرداق) على هذا السؤال بقوله: كان أن حمل عليهم الفارس العظيم فأجلاهم بالماء، ثم أتاح لهم ان يشربوا منه كما يشرب جنده. وهو لو منع عنهم الماء لأنتصر عليهم واضطرهم الى التسليم خشية الموت عطشاً!.
وما هذا الذي ذكرناه من مواقف مشرفة للإمام علي (عليه السلام) إلاّ غيض من فيض، وما هو إلا حفنة من اللآلئ العلوية التي ذكرها المفكر والأديب المسيحي (جورج جرداق) في كتابه (علي وحقوق الإنسان) وهو الجزء الأول من أصل خمسة أجزاء، وعلى كل حال، فإن هذه المواقف الإنسانية الشفافة من شخصية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قد تركت أعمق الأثر في الكثير من نفوس المسلمين والمسيحين في الشرق والغرب على حدٍ سواء.
وقد روي صديق الأستاذ جرداق قصة نقلها له قائلاً فيها: يوم كنت في أحد البلدان الأوربية التي تسعى الى تحرير الإنسان من العوز والفاقة وويلاتها، قلت لوزير معارف ذلك البلد: نحن العرب، سبقناكم أكثر من ألف عام إلى إدراك حقيقة المجتمع الطبقي التي تعملون أنتم اليوم على توضيحها. قال الوزير الأوربي: وكيف كان ذلك؟ قلت: منذ بضعة عشر قرناً قال علي بن ابي طالب (عليه السلام): "ما رأيت نعمة موفورة إلاّ وإلى جانبها حق مضيع"، فقال الأوربي: إنما نحن أفضل منكم!، قلت: لمَ، وكيف؟ قال: لأن عربياً منكم اكتشف هذه الحقيقة منذ بضعة عشر قرناً وأنتم ما تزالون في مظلمة اجتماعية، فيما طبقناها نحن قبلكم. فأنتم متأخرون عنا بضعة عشر قرناً في هذا المعنى. (الامام علي في الفكر المسيحي المعاصر/راجي أنور هيفا).
هنا تكمن المصيبة الكبرى في تأخرنا، اذ ان الغرب الذي نحسدهم على تطورهم والمستوى العلمي الذي وصلوا اليه ما هو الاّ من علوم اهل البيت (عليهم السلام) التي تركوها لنا، ونحن لم نعرها أي اهتمام، بينما الغرب استغل هذا العلم وبدأ يوظفه في مجالات الحياة شتى، فتطوروا هم بفضل علومنا وبقينا نحن العرب متأخرين ومتخلفين!، فعلى من يقع اللوم الآن؟، ومن يتحمل مسؤولية تخلفنا وجهلنا؟ بعد كل هذا التطور الذي وصل اليه الغرب بفضل ديننا وامامنا هل يعتبر النقص في الدين ام فينا؟.
وفي كل الأحوال لا نستطيع ان نمنن الغرب لأنهم استفادوا من علوم اهل البيت (عليهم السلام) واستفادوا من علم الامام علي في تطور تياراتهم الفكرية حتى وان كانوا ملحدين او ينتمون الى اديان مختلفة، لأن في كل الأحوال الامام علي (عليه السلام) هو امام كوني، وامامته وخلافته ليست مقتصرة على المسلمين فقط، بل على العالم اجمع.
فقد استطاع المولى بروحه وفكره الذي حباه الله به، ان يحول المعاناة والآلام الى مشاريع حضارية وقيم، وعلى الرغم من تطور الزمن واستخدام الأسلحة بدل السيوف في الحروب الاّ ان استراتيجيات الامام تأخذ منحى كل زمان وكل مكان، فحوّل الآلام والهموم والهجمات الشرسة التي كان يواجهها من الآخرين الى قيم ومبادئ سامية تقود من يتبعها اليوم الى العلا.
وقد قال الأديب اللبناني (جبران خليل جبران) عن الإمام علي (عليه السلام): "من خاصمه كان من أبناء الجاهلية"، الم يعتبر جبران ان الصراع بين علي ومخالفيه هو صراع بين الحق والباطل، بين الإنسانية والهمجية؟ بين الحضارة والبداوة المشبعة بروح الجاهلية! اذن اين نحن عن هذه الشخصية العظيمة التي هزت عروش التاريخ بإنجازاتها وافعالها الخالدة!، اين دعاة التطور والإنسانية الذين يأخذون من الإلحاد منهجاً لهم، بحجة انهم لم يجدوا الإسلام يشبع حاجاتهم الدنيوية؟، هل هنالك أبرز من الامام علي لتمثيل إنسانية دين محمد (ص) بهذا النهج القويم، هل هنالك اعدل وأشجع من علي؟ اذن اين نحن عن طريق الحق؟، اين نحن عن مولى الإنسانية علي بن ابي طالب (عليه السلام)؟.
حتى لو لم تتقبل الفطرة او المشاعر التي نشأ عليها الإنسان منذ صغره بسبب الصراعات الداخلية والمشاحنات الطائفية، لن تبقى حجة للعقل والمنطق بعدم استيعاب إنسانية وعدالة وحق علي ليكون هو الأول وخليفة الرسول ومنقذ الإنسانية في الدنيا والآخرة.
اضافةتعليق
التعليقات