حاولت أيادٍ كثيرة السيطرة على العراق على مرة الأزمنة، وكانت تتقدم خفية أو علانية وبجرأة في العشرين سنة الماضية، عن طريق الاحتلال العسكري مرة، وتغذية الصراع طائفي مرة، والإسلام الإرهابي المتمثل في القاعدة وداعش مرة أخرى، وكانت هناك محاولات سياسية واقتصادية وفكرية خبيثة كثيرة أيضاً، واستطاع العراق الحفاظ على تماسكه طيلة هذه الفترة في وجه جميع هذه الهجمات، لكن الذي يريد السيطرة على شعب من الشعوب عادة يمتلك أكثر من بطاقة، وخطط بعيدة المدى، ودهاء، وأناة.
وبينما أخذ الفقر ينخر مفاصل العراق، وتحول الشعب إلى جرذ يجري في عجلة، لا يأبه إلا بقوت يومه، وتردت الثقافة، وحلت القيم المادية الاستهلاكية محل القيم الأصيلة، وعادت حمية وعصبية الجاهلية إلى الشعب الذي عانى ما عانى من أمراض نفسية واجتماعية نتيجة كل تلك الهجمات، ظهرت في الآفاق فكرة لامعة، ليست جديدة كلياً، ولكنها نافعة الآن أكثر من انبثاقها الأول في أوائل القرن الماضي، معركة الإسلاميين ضد العلمانيين، الدين ضد ما عداه، ولا أوقات مؤاتية أو أراض خصبة أكثر من الآن، لأن المسلمين لا يعرفون لمَ هم مسلمون، والعلمانيين لا يعرفون لمَ هم علمانيون، لا أحد لديه الوقت ليقرأ أو يفكر أو يتساءل، هذا ما وجدنا عليه آباءنا، وهذا يبدو أنه صحيح، هذا ما أشعر أنه يناسبني.
وبما أن العصبية دقت أركانها دقاً في جذور الأمة، والأمة جاهلة جداً مع كثرة مدعي الثقافة، يسهل تحريك هذا الشعب بمنشور واحد على واتساب، أو تعليق على فيس بوك، أو صورة على إنستغرام، أو مقطع فارغ على تيك توك.
يمكنك اقتياد الشعب المخدر بالأفكار السطحية سواء القادمة من اليمين أو الشمال من جانب النور أو الظلمة إلى مقصلة الإعدام دون أن يشعر أنك تسوقه سوقاً إليها، ودون أن يراها مقصلة، ربما قد يشتبه بها كأرجوحة، ويدافع عنها بكل تلك العصبية التي اكتسبها من سنوات الشحن.
لكن لماذا الآن؟
لأن عليك أن تنشغل بشيء ما بعيداً عن العدوان في غزة، العدوان الذي فضح الاعتداءات السافرة والهمجية المستعلية للسياسات الغربية، وأعلى راية الإسلام بيضاء ناصعة مجدداً، وكأن لا مليارات صرفت لتشويهه، وهذا خطر، خطر أن تفقد شعورك بالدونية تجاه شعارات الغرب المتفوق وتستغني عنه، خطر أن تستعيد هويتك وتشعر بعظمة تراثك وثقافتك، خطر أن يمثل الإسلام دين التحضر ودستور الخير.
لذا لنقسم العراق إلى صنفين، ونجعل كل صنف يرى أنه الحق، وكل شخص لا ينتمي إلى أحد هذين الصنفين هو غير مرحب به، فأنت لستَ مسلماً إذا اعترضت على ممارسة خاطئة لدى الإسلاميين المتشددين، ولستَ علماني إذا ما زلت تعتقد أن جميع التشريعات الإسلامية مهمة ويجب احترامها كالحجاب والصلاة والأكل الحلال وغيرها.
سيكون أمامك حل وحيد هو أن تهاجر وأن تلعن بلدك وناسه بصنفيه، وتذهب إلى بلاد الغرب لتقول "رأيت الإسلام ولم أرى المسلمين" و"الدين في القلب"، ستكون أنت أيضاً -أنت الذي تعتقد أنك محايد- رد فعل على ذلك الصراع، بل أحد أدواته الناجحة، وستدمر صورة الإسلام في العالم مجدداً.
وبالعودة إلى العراق سيختفي الدين تماماً لدى مجموعات كاملة من ناس كلما زاد التشدد، وسيختفي الاعتدال لدى مجموعات كاملة من الملتزمين كلما زاد الانحلال، ستزداد الفجوة، وسنتناحر، وسنظهر في الـ سي أن أن كخبر أساسي يؤكد رواية الغرب بأن العرب متخلفون والمسلمون رجعيون إرهابيون ولا يحترمون الحريات، وعندها نكون أبعد ما نكون عن ما قاله أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، في رواية أذكرها بالنص جاء فيها:
أنه أوصى بعض شيعته فقال لهم: كونوا لنا دعاة صامتين.
قالوا: وكيف ذلك يا بن رسول الله؟
قال: تعملون بما أمرناكم به من طاعة الله وتنتهون عما نهيناكم عنه ومعاصيه، فإذا رأى الناس ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فسارعوا إليه.
حتى قال (عليه السلام): إن كان موضع وديعة وأمانة كان منهم، وإن كان عالم يقصد إليه الناس لدينهم ومصالح أمورهم كان منهم، فكونوا أنتم كذلك.
لم تكن الحمية صفة المسلمين في القرآن بل صفة الذين كفروا، وكان داء أعماهم عن رؤية الحق، وأضعف صفوفهم، وأودى بهم إلى الهوان، بينما المؤمن هين لين سمح كريم حسن الشمائل حلو الملتقى تغشاه السكينة ويسنده الصبر لأنه تمسك بحبل الله المولى والمرشد.
والله هو حامي دينه إلى يوم القيامة بنا أو بأقوام أخرى تطيع الله ورسوله، فالدين محفوظ، أما الأمم تستبدل، وتلك سنة الله التي لن تجد لها تحويلا، لذا افتح عينيك، إنها فتنة، لا تكن بها طرفاً
اضافةتعليق
التعليقات