تزخر الأيام باللحظات الجميلة والغريبة، التي تحتاج لالتقاط صورة تحكي فيها رونق تلك اللحظة الزمنية بحذافيرها، حاملة بين كادرها ذكرى تنتقل مع الوقت، ومن مكان إلى آخر، لتحمل لنا بين طياتها رائحة تلك اللحظة وجو ذلك الموقف، بكل ما يحمله من تفاصيل ويحيط به من مفردات، وبسبب صرعة الهواتف والأجهزة اللوحيّة الذكية، ازدادت وتيرة ذلك الشعور، فأخذ يتأرجح على هواه الأشخاص، ممن اقتنوا تلك الوسائل، الأمر الذي أدى إلى اختلافهم في كيفية تبجيلهم لتلك اللحظة.
ففي لحظات بسيطة قضيناها في بيت جدي كان الجمال يحيط بالمكان وقد امتدت سفرة الطعام بشكل مبالغ فيه وهذا ماتفعله جدتي دوما لتنظر لنا ونحن نتناوله وابتسامتها تعلو محياها، حتى نغادر الدار وأنظر حولي كيف تنشر تلك اللحظة على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بكل احفادها وكل من فيهم وضع ايموجي يبرهن حالة اللحظة، ولكن خلف الهاتف كان المبتسم فيه يعلو وجهه الضجر وكل من فيهم تختلف حالة الحقيقة عن حالة النشر، كلهم نشروا اللحظات التي لايشعرون بها حاليا لكن هذا مايفرضه عليهم حال التطور المشوه الذي يجب عليهم ان يواكبوه من وجهة نظرهم، فبعد أن أضحت كبسةُ زرّ كافية لالتقاط عشرات الصور في ثانية واحدة انقلب الأمرُ رأسا على ذنَب، وأصبحنا نصارع طوفانا مِن الصور الفردية والجماعية التي غمرَت منصات التواصل الاجتماعي، ولأن في الجنون فنون، فقد تعددت المناسبات والأوضاع التي تُلتقَط فيها الصور، فكما وجب غسل اليدين قبل الأكل وبعده، وجب التصوير قبل الطعام وبعد التهامه، ولا مانع أيضا من التصوير أثناء الانقضاض عليه، وتزداد الصور على شاشة الجوال وتشق طريقها إلى المعجبين والمعلقين.
هل هستيريا التصوير تفسد فرادة اللحظات؟
أصبحنا في زمن تصوير اللحظة، الذي يعد في نظر الكثير أهم من عيش اللحظة عيّنها، وهذا يهدد عدداً كبيراً من علاقاتنا من وجهة نظري، خصوصاً مع من يكبروننا سناً، ممن لا ينتمون لهذا الجيل، المتخذ لحرفنة التصوير، أساساً لعيش اللحظة وتوثيقها، وكأنهم يخافون ضياعها بينما هم في الحقيقة يضيعونها دون وعي، لحظات مرهونة بذاكرة الهاتف متى ماامتلئت ستنتقل إلى سلة المهملات، وتضيع الذكرى بين الظن أن الأمر عادي ولا يَعدو وسيلة للتشارُك وتوطيد العلاقات، وأداة للتعبير ومسايَرة العصر، فاستفحلت الظاهرة وجاوزت المعقول لتصل إلى إغراق في التعبير عن الذات وصل إلى طور النرجسية المرضية، وتفتح بابا لتعويض النقْص وإشباع غريزة التملك وجذب الانتباه والاهتمام، وتؤشر على الخواء الفكري والروحي.
وفي واحدة من الدراسات الأساسية التي بحثت العلاقة بين التصوير والذاكرة، توصلت الباحثة ليندا هنكل من جامعة فيرفيلد إلى أنّ الأشخاص الذين التقطوا صورًا لما رأوه في المتحف سجّلوا احتمالاتٍ أقل لتذكّر تفاصيل ما شاهدوه، على عكس أولئك الذين لم يلتقطوا الصور ولم يستخدموا هواتفهم، إذ كانوا أفضل بكثير في تذكر التفاصيل التي رأوها ولم يقوموا بتصويرها، حيث تُظهِر هذه النتائج ما أطلقت عليه هنكل مصطلح “تأثير إعاقة التصوير“، أي ميل الشخص لتذكّر أقل عددٍ من التفاصيل لما قام بالتقاطه سواء بهاتفه المحمول أو بكاميرته، حيث تجعلنا الصور نتذكر الماضي بطريقة محدودة تفتقر للعفوية بحيث أنها تكون في أغلب الأوقات مخطّط لها وفقًا للطريقة التي يرغب الشخص الظهور بها أمام الآخرين، ما يجعلها معرّضة لعكس نرجسيته تماشيًا لما يريد أن يُظهر عن نفسه وذاته للآخرين من حوله ولا تعكس بالضرورة حقيقته وحقيقة مشاعره أو مزاجه أو شخصيته، ما يعني أنّنا إذا اعتمدنا بشكل كبير على الصور عند تذكر ماضينا فقد نقوم بإنشاء هوية ذاتية مشوهة بناءً على الصورة التي نريد ترويجها للآخرين، وهذا يعني تذكر الأشياء بطريقة محدودة عند التقاط الصور، والمصيبة الاكبر أن هوس التصوير لم يعد قاصراً على الشباب والمراهقين من الجنسين بل أصبح حتى بعض كبار السن يصورون يومياتهم حتى ان بعضهم يصور داخل منزله، ويشارك في وسائل التواصل كل ما يدور في يومه من احداث بل ويكون بثاً مباشرا فنعرف كل تفاصيل داره المهم وغير المهم، حتى اني شاهدت مقطعاً لشخص يصور داخل فمه بعد ان عاد من عيادة الاسنان ليري المتابعين الحشوة التي وضعها الطبيب على ضرسه، واخرى تبث لحظة ولادتها بكل وقاحة ودون مراعات لاي خصوصية وقد فسر بعض علماء النفس هذه الحالات بأنها شعور بالنقص وعدم وجود هدف أو رسالة، وببساطة حاول أن تستمتع بحياتك وتحافظ على خصوصياتك وتذكر ان ما يخرج من هاتفك وتنشره في وسائل التواصل الاجتماعي لم يعد ملكك ولا يمكنك التحكم فيه، يمكنك توثيق لحظاتك بشكل معتدل لا اسراف فيه، فالاسراف مذموم في كلّ وقت وحال، حتى لو تخفى وراء شعارات تدغدغ العاطفة وتخطب ودّ الأفئدة، بينما يَبقى الاعتدال دستور حياة وضَع بنودَه العليم بأحوال العباد، ودعا إليه الأنبياء والمرسلون، وتبناه المصلحون في كل حِين.
اضافةتعليق
التعليقات