في مشهد أشعث رث الجوانب تبكِ أركانه دماً، والمحيطون رماديين كالأنقاض مد الزمن سكينه الجارح نحوهم، وإذا بالصغار قد تناثرت شظاياهم، مد المحيطون أصابعهم نحو صدمة بجانب دارها الذي خرَّ ساجدا، أنتِ هشة كفاية صغيرتي، حُملت على الأكتاف وظلت يداها تمسك آذانها والطفل الرضيع بجانبها فاقداً كفه يصرخ، فأغمضت عيناها كي لا تفيض وأمطرت مدامعها بأحضان الطبيب، احتضنها بقوة ليطمئنها هنا المستشفى بعيدا عن أيدي الصواريخ وإذا بصوت رهيب يخترق أرواحهم، فماتت والطفل والطبيب معاً، (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
ثم وقف خاوي الفكر يغرد: "يستحق العجول مايجري عليه".
هل أُكِلنا يوم أُكِلَ الثورُ الأبيض؟
(يحكى أنه كانت هناك ثلاثة ثيران في أَجَمة: أبيض، وأسود، وأحمر، ومعها أسد، فكان لا يقدر منها على شيء لاجتماعها عليه، فقال الأسد للثور الأسود والأحمر: "إنه لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور، ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله خلت لكما الأجمة وصفت"، فقالا: "دونك وإياه فكله"، فأكله، ومضت مدة على ذلك، ثم إن الأسد قال للثور الأحمر: "لوني على لونك، فدعني آكل الثور الأسـود"، فقـال له: "شأنك به"، فأكله، ثم بعد أيـام قال للثور الأحمر: "إني آكلك لا محال"؛ فقال الثور الأحمر: "دعني أنادي ثلاثة"، فقال الأسد: "افعل"، فنادى الثور الأحمر: "إنما أُكلت يوم أُكِل الثورُ الأبيض).
واليوم نحن نتساءل هل أُكِلنا منذ زمن بعيد حين وقف قادة الضلالة موقف الجبناء وصافحوا العدو مدعين السلام، أم أننا أُكِلنا يوم قطعنا المودة وأضعنا الرحمة من قلوبنا، فنحن كأفراد يستنكرون ويرفضون، نملك كامل الحرية باختيار الموقف، إذاً كيف للأغبياء أن يقفوا على الناصية ويرتفع صوتهم ونحن صامتين ونشاهدهم، متخلين عن اخوانهم مدافعين عن ضلال ظاهر واضح كالشمس لا يختفي لأجل مصلحة دنيوية ومادية، وفي نهاية الكلام يذكرون النبي (صلى الله عليه وآله)، متناسين أنه قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وهذا ما لا يطبقوه بل ركن بغيض من فرط تبعيتهم وتبجحهم يلومون الضحية، ويتهمون الغاضب بالتطرف والانفعال، صامتين عن قول الحقيقة ومتزلفين للجلاد، ويتسولون الاعتدال، لا أعرف ماتحمله قلوبهم القاسية حين قرأوا هذه الرسالة التي تضج بمشاعر الغبن والغضب والخوف من امرأة فلسطينية تعيش في غزة كتبت: "الفزع يملأ المكان".
بيتنا يسكنه الذباب والموت، فتحت الباب كي أفر من طنين الذباب ورائحة الموت، فإذا بي أصطدم بمزيد من الجثث وصرخات الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم هذه هي الحال في غزة!.
موجهة إلى كل من ساوى بين الضحية والجلاد، وجعل من الضعف والهوان والانحياز الفجع وجهة نظر للنقاش، هذه الرسالة تقول بوضوح: "إذا لم تستح فاكتب وقل ما تشاء"، حتى أننا نخجل من التعبير عن الحزن رغم هذا الألم، فأضعنا وصية الرسول ولم نطبق حتى أضعف الإيمان حين قال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
فالمنكر لا بد من تغييره، ولكن تغييره على مراتب، ولما كان الناس يختلفون في قدراتهم على ذلك فإن الحكيم رتب إنكار المنكر على حسب قدرة الشخص، ولكن لا يعذر أحد من المكلفين بترك الإنكار مهما يكن من أمره وتحت هذا الكلام يوضع ألف خط أحمر ينبه (لا يعفى أحد)، فيجب عليه أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أقل الأحوال.
ما واجبك كمسلم تجاه مناصر الجلاد؟
قد تعددت أشكال الدعم وكل شكل هو مؤثر وإن كان بسيطاً ولكن ببساطة جميعنا يعلم قوة الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وكيف تؤثر اليوم، وكيف للأشخاص (المشهورين) من تأثير على المتابعين، يجب أن نغربل وجودهم ونقلل تأثيرهم إن كانوا يدعمون الظلم وارجاعهم إلى حجمهم الطبيعي وإسكات صوتهم وهو أنكر الأصوات رغم أنه أضعف الايمان الذي يمكننا أن نفعله لينتبه المتأثر بهم ويعي للحق، واعلاء صوت الحق ومناصرته في محيط يديك إن لم تستطع أن تكون جسداً بجانبه.
عليك عزيزي أن تشهد اليوم بتقليل حجم الظالم ودعم المظلوم واضعاً كمادات الايمان لجسد أخيك الذي لازمته حمى العدو وتسهر بجانبه حتى يشاء الله له أن يشفى، كما وعده عزَّ وجل في محكم كتابه: {وَلَا تَحسَبَن اللَّه غَافِلًا عَما يَعمَلُ الظالِمُونَ إِنمَا يُؤَخرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فِيهِ الْأَبصَارُ}، وهي آية تهديد ووعيد ولكن ما أعظم ما فيها من شفاء لقلوب المظلومين وتسلية لخواطر المكلومين، ويعلم علم اليقين أن حقه لن يضيع وأنه سوف يقتص له ممن ظلمه ولو بعد حين، وفي ذات الوقت فيها تنبيه للناس أن انتبهوا في أي وادٍ أنتم وأي فريق يضمكم، وليعلم الجميع في وعيد الله لا يوجد طرف رمادي محايد وإنما إما أن تكون ظالما فتتلقى وعيده أو مظلوما فتنعم في جنانه.
اضافةتعليق
التعليقات