ما نفع الشموس لمن في قلبه ليل عتيق يسير على أطراف أيامه فيختطف منها حلوها ليزيد المرّ مرّاً، فتمتد المرارة لتصيب ما يُكرم الانسان ويهينه في ذات الوقت، من يصنع مكانتك في قلوب الآخرين ومن يلجمها عن العلن، وكأنها حبيبات امتدت على طول اللسان فتركت فيه شللاً كان تشخيص الطبيب له خاطئاً فنتج عن الدواء نفاق عارم حطم ماتبقى من جميل واقعه.
بكل أريحية امتدت خيوط الحروف فتشكلت على هيئة عبارات عن صلة الرحم وبر الوالدين مزخرفة بأبهى حلة تسبقها آية وبعدها آية ويتوسطهما دعاء مارأيته يوما على سيماهم، وثم تم الضغط على أمر "نشر" فانهالت التعليقات عبر مواقع التواصل بين مادح ومترحم ومحسن، أما من يعرف هذه الشخصية حق المعرفة وهو من ذوات الرحم يعلم أنها لا تعرف معنى صلة الرحم أساسا، غريب أمرهم كيف لإنسان أن يعيش بوجهين مختلفين بآن واحد دون أن يصيبه الاشمئزاز من نفسه.
وجه مستعار يرتديه لإخفاء حقيقة شخصية هي لا تعبر عنه في الواقع ولا تمد له بصلة، كل هذا التخفي واصطناع الذات في مواقع التواصل الإجتماعي يدل على رفض غير معلن لنفسه، وعدم تقبلها كيفما هي بسلبياتها وإيجابياتها، خوفا من العالم المحيط به، وسعيا لإرضاء من حوله، بحيث يتعمد لإظهار نفسه في قائمة أصدقائه بصورة مغايرة تماما لصورته الحقيقية، معتقدا أنه خلف شاشات الجوال لاتكشف شخصيته، فيبدأ بنسج بطولاته والتمثيل والتملق إضافة إلى المجاملات المزيفة لإيقاع الكثيرين في وهم كذبه، هم حقا يجيدون براعة التمثيل في عالمهم الالكتروني، ورغم ذلك لا أحد يعلم الحقيقة سوى الأهل .
النفاق الإلكتروني ..
شاب يحاول إقناع الفتيات في مختلف منشوراته بأنه إنسان متحضر، واعٍ، ومثقف، فتراه يدافع عن حرية المرأة وحقها في العلم والعمل، وفي الحقيقة لا يؤمن بأي دور للمرأة في الحياة، يؤمن فقط بواجباتها في المنزل، وبتلك المقولة المشهورة التي همست في أذنه جدته "المرة مالها إلا بيت زوجها" هو في الواقع يمنع شقيقته من الإلتحاق بالجامعة بدعوى الخوف كما كان زميلي يخبرني في قاعة الدراسة أنه قام بإبعاد أخته الصغيرة التي لم تصل في الدراسة سوى إلى الصف السادس الابتدائي أي تواً بدأت تتعلم بشكل واضح عن مقاعد الدراسة لأنه لا يحبذ أن تختلط مع الجنس الآخر رغم أنه جالس أمامي ويتحدث، وينوي الارتباط بأخرى تشاطرنا الاختصاص، الأخ السلطوي الذي لا يشعر بأنه رجل إلا إذا أصدر أوامره على أخواته ملوحا بضعفه وفشله، ولا يزال ينشر غسيل كذبه في المواقع حتى يصطاد كما هائلا من التعليقات والإعجابات والفتيات أيضا، وفي الواقع وبعيداً عن كل مسرحياته لا أحد يعرف بحقيقته سوى أخته الحبيسة في جدران نفاقه.
أيضاً إننا نجلس على سبيل المثال مع شخص ندرك جيدا أنه على خلاف مع آخر وبدرجة كبيرة، وأنهما مهما حدث لن يتعاملا مع بعضهما بعضا مرة أخرى، غير أنه أثناء تصفحنا “انستغرام” نجد كليهما في صورة مليئة بالحب والمودة، ويزينها كلام مليء بالعاطفة تجعل المتصفح العادي يشعر بهذا التوافق والمحبة الموجودة بينهما الذي سينتهي بانتهاء حالة النشر، هذا الموقف يجعلك لا تصدق أي نوع من المشاعر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت عبارة عن نفاق .
ويعرَف النفاق في اللغة العربية بأنه إظهار الإنسان غير ما يبطن، وأصل الكلمة من النفق الذي تحفره بعض الحيوانات كالأرانب وتجعل له فتحتين أو أكثر، فإذا هاجمها عدو ليفترسها خرجت من الجهة الأخرى، وسمي المنافق بهِ لأنه يجعل لنفسهِ وجهين يظهر أحدهما حسب الموقف الذي يواجهه، كما في مواقع التواصل الذين يظهرون لمتابعيهم ومعارفهم صورة مغايرة تماما في الواقع، يتصنعون صفات لا تشبههم، ويمارسون النفاق في المواقع ليحضون بالإعجاب والإشادة ممن حولهم، فتبدأ أصابعهم بنشر طقوسهم على الملأ سعياً للشهرة أو لانتحال شخصيات الآخرين، وعادة ما يتصف أصحابها بضعف ثقتهم بأنفسهم وعدم وجود مبادئ وأخلاق تربوا عليها كالصدق وتقدير الذات، فالمواقع جعلتهم يعيشون شخصيتين، أحدهما تمدح وتبالغ للعلن عن تعبيرها الايجابي تجاه شخص ما، والأخرى شخصية سلبية تنتقد كل شيء، فهي مزيفة أشبه برصاصة لا تخترق جسد أحدهم بقدر ماتخترق جسد صاحبها لتصيبه في العمق.
خلاصة القول أصبحت مواقع التواصل الإجتماعي، وسيلة يستطيع الإنسان من خلالها إخفاء الذات الحقيقية وراء شخصيات لا تنتمي له، فالعالم الإفتراضي كثير من رواده يرتدون الأقنعة ، والكثير يصابون بالصدمة لأنهم يدركون أن من حولهم “ينافقون” لهم إلكترونيا، من خلال الكلام الجميل والمنمق، هي للأسف مجرد اسقاطات شخصية ونفسية بعيدة عن واقعه الطبيعي، القصد منها الظهور بالشكل المثالي فتجدهم في الواقع بوجه وفي المواقع بوجه آخر وذلك هو النفاق الذي نعني به، والإسلام حذر من النفاق أشد تحذير، ووردت آيات كثيرة تتحدث عن النفاق والمنافقين، قال تعالى: {إِن الله جَامعُ المُنافِقينَ وَالكافرين فِي جَهنمَ جمِيعاً}.
اضافةتعليق
التعليقات