ربما كان يوما سعيدا وربما ليس كذلك، لكنه بدأ بوقوفي أمام المرآة وأنا أُكلم نفسي: كيف مرت عليكِ كل هذه السنين ياهالة؟!
ثم بلمسات خفيفة على بشرتي التي تغيرت؛ تسائلت: هل حقًا أنا سعيدة بيوم مولدي أم انني حزينة لبلوغي سن الثلاثين؟ عموما لابأس.. لا بأس.. لأكون سعيدة..
الساعة الثالثة وكالعادة جلسات مابعد الظهيرة ووفود الأقارب، لكن اليوم كان مميزًا بالنسبة لي فهو يوم مولدي، صنعت بعض الكعك وقدمته للضيوف، أنا اليوم أبدو بكامل أناقتي ربما أنا أحتفل بنفسي، وبينما كنت أتمنى سماع أجمل التهاني؛ سألتني عمتي شيماء بطريقة مستفزة؛ كم أصبح عمرك ياهالة؟ أجبتها بإبتسامة خفيفة: ثلاثين ياعمة، وكأنها نفثت بعض السم من لسانها وبدأت تقول: (يالهم من عديمي نظر، كل هذا الجمال وهذه الرقة ولم يطلبكِ أحد، بينما إبنة جارتنا لاتملك ربع مواصفاتك والشبان من حولها ما أكثرهم)! وأكملت حديثها عن إبنتها والفتيات اللاتي تزوجن مبكرًا وأنجبن وصار لديهن بيت وأسرة، وفتحت طريقًا للحديث نحو البقية ليرمون ماتبقى من الأمثال وغليظ الكلمات بحق العانس!.
فلا سلام عليهم حيث جعلوني أخاف القرب وأتهرّب، وتركوا فيَّ عزلة وعتمة بلا ضوء فهل سيسامحهم ربي؟! فلا سلام على من يزيد آلامي ويزرع الخذلان داخلي؛ بل الأقسى من هذا كله أنهم جعلوا أُمي تنزعج وتستاء بشدة أكثر من ذي قبل؛ وبعد خروجهم انهالت عليَّ بالكلام الجارح وكأن القدر بيدي، وكأنني من تختار النصيب وتستعجل القسمة!.
ليتكِ يا أُمي تعلمين عن كل الزجاج المحطم داخلي جراء أقوالهم فالبعض ينظر إلي بشفقة أما البعض الآخر فينظر إلي بسخرية واستهزاء خاصة بعض قريباتي؛ فكلما تزوجت إحداهن جاءتني تتبختر ساخرة، تكلمني بغرور وتعالي!.
فلهذا أقول أيتها اللّحظات السعيدة التي لم تأتِ بعد؛ هل لكِ أن تسلكي دربًا مُختصرًا قبل أن يشيخ قلبي..
سنوات وأنا ممسكة بسحر مذهل يتدفق في مخيلتي، لأكون أنا كما أنا وأصارع به المعقول وغير المعقول، ولكن الغيوم السوداء لا تنفك تحوم حولي تبطئ مسيري وتهزمني، فيتسلل الأرق إلى غرفتي ليلًا مصحوبا بكابوس يجثو على قلبي ليردد صدى كلمات الأقارب:
(متى يا هالة؟.... لقد تجاوزتِ الثلاثين).
وربما تكن هذه ألطف عبارة آخذها معي إلى السرير لتعاد المرة تلو الأخرى، أما البقية فتلميحاتهم معجونة باللؤم والخشونة في كل رؤية لهم إياي؛ يتفننون بسرد القصص والأقوال! فتتساقط حبات البلور من أعيني الذابلة سرًا، وأشعر إن كل نوافذ الترقب تتحطم بداخلي، وكأن أمر عزيز أشبه بالأمل قد بات ينطفئ داخلي، وكلما أردت أن أخرج من كهف اليأس، يقذفوني تجاهه..
ها قد بدأت أسمع صوت القطار وهو مسرع وصوت عجلاته تحتك بالقضبان فتعلو على صوتي المتوسل ليقف وينقذني من كلامهم لكنه يبتعد ويبتعد، وأبقى أنا قابعة في مكاني، أرتقب لحظة إعتدال تغيّر مجرى الأحداث لكي تخيط أفواه الذين يرون إن ارجوحة الحياة لا تحمل الانسان إن لم يكن له مرافق أما دونه فلا قيمة لها! وأروح أتسائل: كيف أدركه وفي أي محطة أجده؟ وإن لم يسعفني الحظ فهل سأغدو وحيدة ومنسية كما يقولون؟! توسدت الألم وأراقت عيناي ماتبقى بها من بلور ثم غفوت..
استيقظت على صوت الهاتف يرن، إنها صديقتي حنين! لا طاقة لي على تحمل سؤالها عني وعن يومي وثرثرتها المعتادة..
قررت أن لا أُجيب ولكنها عاودت الاتصال أكثر من مرة على غير المعتاد وكأن لديها أمرًا مهمًا تود اخباري به! بتردد وتثاقل؛ سحبت بإصبعي على شاشة المحمول واجبتها: أهلا عزيزتي كيف حالك؟.
وإذا بها تنهال عليّ بكلماتها الحادة وتصرخ متسائلة: لما لا تردي على اتصالاتي، هل انتِ مجنونة ما الذي أصابكِ!.
أجبتها بكل إستياء: أرجوك حنين لستُ بمزاج جيد قولي ما عندك وأوجزي لو سمحتِ..
أطلقت حنين تنهيدة صاحبها صوت قهقهة فرح وقالت: حبيبتي ورفيقة دربي أحمل في جعبتي خبرًا لكِ بمليار دولار، سيجعل مزاجك بحالٍ أكثر من ممتاز..
اتسعت حدقتا عيناي وكل ما فيَّ استعد للاصغاء؛ ياالله ما الخبر الذي قررت أن تبعثه إليّ كي أشعر بالسعادة ولو قليلًا بعد طول انتظار!.
أردفت حنين: مطلوب موظفة للعمل في إحدى الوكالات للفن، وبما أنكِ تميزتِ منذ نعومة اظفارك برسم لوحات فنية رائعة تتميز بجمال خلاب لا يمكن وصفه من شدّة ابداعك برسمها، وكذلك الرسم على الجدران بصورة دقيقة جدًا، وأيضا تلك الرسومات لتصاميم فساتين السهرة، كل ذلك سيؤهلك للفوز بتلك الوظيفة بعد الاختبار الذي ستنجحين بإجتيازه دون أدنى شك..
لم أُصدق ما سمعته أُذناي! وهل بعد كل هذه السنوات تصادفني فرصة العمر التي كنت أحلم بها؟! هل سأحلق بسماء طموحي دون قيد أو خوف؟! يا إلهي إن صدق الأمر وتحقق سأتكئ على نفسي اتكاءً لن ينكسر طالما وهبته لي يارب من جوف حزني العميق..
مرت الأيام وذهبت لإجراء مقابلة العمل، كنت في ذلك اليوم مرتبكة لأني خرجت من المنزل دون أن أرى ملامح القبول والاقتناع على وجه أُمي وكل عائلتي ولكني رغم ذلك الارتباك أحسنت تقديم نبذة عن سيرتي وعن رسوماتي، وبعد الإختبار وبطريقة جذابة أجبرت المقابل على أن لا يقوم سوى بالثناء على عملي وتهنئتي..
بعد أسبوعٍ واحد مرَّ على المقابلة رنَّ هاتفي برقم غريب وحين أجبت: مرحبًا من معي؟
أجاب: اهلًا آنسة هالة لقد تم اختياركِ وقبولكِ كموظفة في وكالة الفن عندنا وعليكِ المباشرة بالعمل في بداية الشهر المقبل!.
هنا رحت أجول أرجاء المنزل فرحة وأخبرت الجميع بأني حصلت على الوظيفة، فأتتني التهاني من كل صوب فلم يكن نجاحي متوقع أبدًا لدى البعض من أقاربي، وللمرة الأولى أحسست بأن أول خطوات نجاحي لا بُدَ لها أن تكون صدمة لكل حاقد ولهذا لم أُبالي بكم السخرية التي دسها البعض في تهنئتهم لي..
باشرت عملي بكل عزم ومضت الأيام وازداد تفوقي وراحت تصاميمي ترى النور في كل مكان، وأصبحت باقي الوكالات وبعض الشركات تبعث لي ببرقيات وتعرض عليَّ عقود عمل، وبات الجميع يخبرني بتميُّزي وشدة اعجابهم بأعمالي وهذا ما كان يسعدني كثيرًا ويحفزني على المثابرة ويأخذ بيدي صوب النجاح تلو الآخر فأروح ساجدة لله تعالى شكرًا وحمدًا في كل يوم وكل ساعة..
وفي صباح يوم جميل ممطر امتلأت فيه الشوارع برائحة الشتاء ورطوبته، كنت على موعد لحضور حفل من أجلي بدعوة مفتوحة للجميع، يتم فيها تكريمي على انجازاتي التي يُقال عنها مذهلة، وهذا ما جعل وجهي يشع بلون الصباح، ومع أناقة ناعمة في ملبسي وخاتمي الفضيّ الذي اهدتني إياه أُمي في عيد ميلادي كان يزهو في وسطى أصابع يدي اليُمنى؛ وصلت متأخرة بسبب الازدحامات في الطرق، وعندما وضعت قدمي على عتبة قاعة التكريم في أول خطوة لي؛ سُلطت الأضاءة نحوي بشكل مبهر! أخذتني المفاجئة في غبطة لم أشعر بها يوما، زادني ذاك حماسًا وثقة بنفسي لتغمرني سعادة لا توصف..
تم تكريمي بدرع الفن وأشادَ الجميع بتصاميمي للفساتين ورسوماتي البديعة على جدران الوكالة التي عملت بها، وانهالت عليّ الهدايا والتبريكات من قبل الجميع وحضرت كاميرات لبعض القنوات التلفزيونية وراحوا يوجهون لي بعض الأسئلة، وطلب البعض التقاط صورا معي، أما البعض الآخر كانوا من المعجبين وأغلبهم عرض عليّ موعد عشاء أو حضور حفلة تخصه وتلك التلميحات المريبة.. إلا إني واجهت الجميع معتذرة عن عدم القبول، فلست من ذاك النوع الذي كانوا يتوقعونه..
وقد نُقل ذاك الحدث على الشاشات بصورة مباشرة وراحت المقاطع تنشر في برامج التواصل الاجتماعي، وبعد إنتهاء الحفل عدت إلى المنزل منهمكة بفرح لا يسعه العالم كله؛ استقبلتني أُمي بفخر وحفاوة لم أشهد مثيلًا لها طوال عمري وهي التي بدأت تعاملني بحب أكبر منذ أن زاولت عملي وراح شبح وصول العريس يختفي من أمامها ولم تعد تهتم بهذه المسألة، بل جميع المحيطين بي وكل من أعرفهم تغيرت معاملتهم معي وصارت مكانتي عالية ولن يجرؤ أي أحد على التفوه بأي كلمة جارحة أو ساخرة بحقي، وإنما صرت حديث الساعة وتبدلت نظرات الاستهزاء والشفقة وغيرها تجاهي؛ إلى نظرات فخر واعتزاز من قبل أحِبتي، ونظرات حسد وحقد وغيرة عمياء ممن كانوا يرون أنفسهم أفضل مني..
اضطجعت تلك الليلة وأنا راضية عن نفسي أجمل الرضا شاكرة لكرم ربي، ولا يمكن أن أقول بأني سعيدة بهذا النجاح لكون عقلي وقلبي راغبان بالطيران كطائر لا يهمه إلى أين يتوجه؛ بل المهم أنه محلق وأنا كنت هكذا تماما!.
لم تنتهِ تلك الحفلة بتكريمي فقط بل وبعد أيام تقدم لخطبتي شاب وسيم مُحترم، وأيضًا معروف ويعتبر من الطبقة الغنية، سألته عن سبب اختياره لي وما الذي دفعه لخطبتي؟.
أجابني بكل وِد: لأنكِ شخصية مثالية وتنفعين أن تكوني زوجةً لي، تصوني شرفي وتحافظي على تأريخ وسمعة العائلة..
في سري كنت فرحة للغاية بأن أكون زوجة لمثله ولكني صُدمت حين أردف قائلًا: لكن عليكِ أن تكوني ربة المنزل بل ستكونين الملكة فيه ولا داعي لأن تعملي لأنني أستطيع أن أنفق عليكِ قدر ما تشائين..
صوت شجي في داخلي انقطعت أوتاره وبين لحظة وأخرى تهاويت ثم وقفت مبتسمة، قوية وبكل جرأة وذكاء أخبرته بأني لم أستند على نفسي ليأتي اليوم الذي تكسرها أنت فيه، وأني لم أتحمل خذلان مجتمعي لأفرط بنجاحي بعد ألم كبير وجهد حثيث..
صَمتُ لبرهة ثم نطقت بجملة واحدة، "إرحل عزيزي أنا لا أناسبك"!.
وبعدها خرجت لعملي الذي بات يتوسع ويأخذ كل وقتي، وصرت أعود إلى المنزل وأنا أشعر بالراحة التامة ولم يعد كلام الأهل والأقارب يؤلمني ولا يثير اهتمامي أبدًا، لأنني استقويت بذات نجاحي واستقليت بشخصيتي وسيطرت في وضع حدٍ لكل من يحاول أن يتجاوز خطوطي الحمراء، وأني لن أكون مجبرة لأتزوج برجل لا يعرف كيف يكون لي رجلًا حقيقًا! حتى لو بقييت عزباء ما طال الدهر وهذا ما قررته في مسيرة حياتي الجديدة؛ فبعد كل ما حدث لي أصبحت مدركة بأني لست محتاجة للإرتباط بشخص ما، فأنا مرتبطة بأحلامي أشد الإرتباط وأجمله، أستيقظ صباحًا وأنا أبتسم وأحمد الله على فرحة رأيتها بالأمس تزين وجوه الأطفال المعاقين في ذاك الدار عندما وفرنا لهم عربات يستقلونها ويتجولون بها ليخرجوا ويروا ضوء الشمس!.
عاهدت نفسي أن أتيح فرص السعادة للآخرين أينما وجدوا وبأي حال كانوا، فأحلامي كثيرة ومختلفة ومفعمة بشغف جامح، وأحمد الله بأني لم أكن أشبه الأخريات ولا أود ذلك البتة، فلا يروقني عيش حياة روتينية تتشابه فيها الأيام وتتكرر الأحداث كنسخ لسلسلة حلقات شوهدت مرارًا لا تتغير فيها سوى الشخصيات والوجوه!.
حياة تختارها معظم الفتيات بل هي حلمهن المنشود غالبًا؛ فستان أبيض وعريس وسيم ثم أطفال وعائلة..
لتصبح أسيرة للروتين الطبيعي الذي سيتوجب عليها الاعتياد عليه وبوقت مبكر! لم تتبادر إلى ذهني تلك الحياة إلا نادرًا؛ وإن خطرت على بالي أفضّل تأجيل التفكير بشأنها إلى إشعار آخر مادام النصيب المنتظر لم يطرق بابي إلى الآن، فلدي الكثير بعد مما أتوق لإنجازه..
أصبح شعوري بالمسؤولية يزداد أكثر فأكثر ولازلت أمتلك الكثير لأقدمه، فلِمَ أدفن تلك الطاقة المتوهجة داخلي وأطفُئ نورها؟ لِما أقتل ذاك الطموح وأُيتم تلك الأحلام؟!
لا أحب أن أظلم نفسي، بل أفضّل التعلم والعمل مهما استطعت، ومنذ أن تلقيت تلك المكالمة من صديقتي حنين التي انتشلتني من واقعي المظلم؛ وأنا صرتُ أعشق مساعدة الآخرين وأؤمن بأن العطاء أسمى صفة يتحلى بها الإنسان، فلا سعادة تضاهي رؤيتي فرحة من أمد لهم يد العون، ورغم تزاحم الأفكار في رأسي وكثرة طموحاتي وانعدام فراغي؛ أُدرك بأن كل شخص لابد له أن يرتبط ويكوّن أسرة، ولكن لا يعني ذلك بحد ذاته إنجازًا بالنسبة لي!.
سأبقى أنتظر من يناسبني، وإن لم أجده سأكتفي بنفسي ولا شك بأن أحلامي وآمالي ستكبر ولن تنتهي؛ فأنا لست عارية إن بقيت عزباء!.
اضافةتعليق
التعليقات