تُراكِم أغلب الشعوب في ثقافاتها عبارات وشعارات توحي باتصاف الشعب بالذكاء والعظمة والألمعية، وغيرها من الصفات الإيجابية ذات البعد الجماعي، ويتضح ذلك في الأناشيد والأغاني الوطنية والشعارات السياسية والاجتماعية.. لكن .. هل هذا الوصف يكون بالفعل صحيحاً؟ هل يمكن القول مثلاً، أنه لوجود عباقرة أو علماء أفذاذ في مجتمع معين، أن هذا المجتمع يكون عبقريًا بالتبعية؟ أو هل يسعنا أن نقر لشعب ما بالعظمة والألمعية «حالياً» بسبب تاریخ «قدیم» تحققت فيه إنجازات كبيرة في بعض المجالات – ربما قبل آلاف السنين؟ هل الصفات التي نطلقها على الأشخاص، يصح أن نعممها على المجتمع كله؟
بين يدي كتاب يحمل عنوانا طريفاً:
«أنت لست ذكيا إلى هذا الحد»، يحاول المؤلف من خلال كتابه أن يبدد كما هائلاً من «الخرافات» و «الأساطير» التي يبنيها الإنسان عن نفسه وتؤدي إلى تضليله في اتخاذ قراراته.. وددت لو أن هناك كتابًا يتحدث إلى «الجمهور» إلى «الشعب» ويحمل عنوان «لستم أذكياء إلى هذا الحد». قد يختلف كثيرون في تعريفات الذكاء، ودلالاته ومؤشراته، لكن هل يمكن القول إن الإنسان – وبالتبعية الشعب - الذكي، هو إنسان - شعب – لا يمكن خداعه – إعلاميا – بسهولة؟ في الواقع، لا تقدم الدراسات حول «ذكاء الشعوب» إثباتاً واضحاً لوجود ارتباط بين مستوى الذكاء وبين قابلية الشعب للخداع من وسائل الإعلام، فالدول الأكثر ذكاء – حالياً – بحسب هذه الدراسات هي الدول الأكثر تقدماً بصفة عامة، وفي دراسة نشرت قبل عامين للعالم البريطاني ريتشارد لين، واستخدم فيها مقياس الذكاء IQ ، احتلت سنغافورة الصدارة بمعدل ذكاء ۱۰۸ درجات، وجاءت كوريا الجنوبية في المرتبة الثانية بـ ١٠٦ درجات، ثم اليابان ١٠٥، وفي المركز الرابع ظهرت أول دولة أوروبية وهي إيطاليا التي حصلت على ١٠٢ درجة، ثم أيسلندا، ومنغوليا ، وسويسرا ، والنمسا، والصين والتي يتوافق المعدل بها مع المستوى العالمي المتوسط ، وهو ١٠٠ درجة، وهو المعدل نفسه الذي حصلت عليه بريطانيا، بينها تساوت الولايات المتحدة وإسبانيا وفرنسا في المعدل ۹۸ درجة. بحسب الدراسة، فقد تصدر العراق الترتيب العربي بمعدل ۸۷ درجة فقط وترتيبه العالمي ٢١، ثم الكويت بـ ٨٦ درجة، ثم اليمن 85 ، وتساوى في المركز الرابع بـ٨٤ درجة كل من الإمارات والأردن والسعودية والمغرب، والغريب أن مصر ولبنان احتلتا مركزاً متأخراً بمعدل ٨١ لمصر، و ٨٢ للبنان.
تختلف الأسس التي تعتمد عليها الدراسات المتخصصة في المقارنة بين مستويات الذكاء لدى مختلف الشعوب والحضارات، بعضها ينطلق من معايير الذكاء الفردي، وبعضها ينطلق من الناتج الإجمالي السنوي، وبعضها يستخدم معايير مركبة تتضمن: نظام التعليم، والإنجازات العلمية، وبراءات الاختراع، وكثير منها لا يُخفي تحيزه الواضح ضد المسلمين بصفة عامة،.. إلخ.
لكن ماذا عن الإعلام؟
في دراسة ريتشارد لين، يُلاحظ أن أغلب الدول التي حصلت على مرتبة متقدمة في مستويات الذكاء، تتمتع بدرجة مرتفعة من «حرية الإعلام»، فهل يمكن القول إن الشعوب الأكثر ذكاءا - بحسب التصنيفات الغربية – والتي تتمتع بحريات إعلامية، تكون في الوقت نفسه أقل وقوعا في براثن الخداع الإعلامي؟
- في الحقيقة، فإن وسائل الإعلام في تلك الدول «المتقدمة الذكية» أكثر تعقيدًا وأعمق وصولاً وأعظم تأثيرًا، وبالتالي أكثر قدرة على الخداع، وبذلك لا يمكن أن نجازف بالقول إن
«ذكاء الشعوب» المرتفع يعطيها حصانة ضد الإعلام، فهل ثمة فارق؟
إن حادثة غزو المريخ تعطينا لمحة عن هذا «الجمهور الذكي» وكيف يمكن أن يتلاعب به الإعلام، وفي الحقيقة مع تطور وسائل الإعلام وتعقدها وتنامي قدراتها على التأثير في الرأي العام بصورة مخيفة، بل على التحكم به بصورة تبدو مطلقة أحيانا، يحق لنا أن نتساءل بجدية: هل يوجد شعب غير قابل للخداع؟ لا شك أن الحريات الإعلامية تسمح بمجال أرحب لتداول المعلومات، كما أنها تفسح المجال أمام الراغبين في معرفة الحقيقة ليصلوا إليها دون عوائق، لكن بنظرة مقارنة، يمكن أن نلاحظ تشابهًا في الأسلوب والوسائل والأدوات والحيل التي تتبعها وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم، بغض النظر عن مستويات الذكاء الشعبي أو الحريات..
الفرق بين إعلام المجتمعات التي تتمتع بالحريات، وبين إعلام الدول المحرومة منها، يتضح في أربع سمات رئيسة، وهي:
أولاً: مستوى التناقض بين الحقيقة والافتراء.
ثانياً: مستوى «الحبكة الإعلامية» للأكاذيب والمتناقضات.
ثالثاً: وجود النخبة المؤثرة المعارضة للخداع.
رابعاً: توفر البيئة القانونية الداعمة للحريات.
وبما أن «الخداع الإعلامي» يكاد يكون «لغة عالمية» متفق عليها بين وسائل الإعلام بغض النظر عن مستويات الذكاء أو الحريات، فمن المهم أن نلقي نظرة إجمالية على أهم النظريات والمفاهيم والإستراتيجيات المستخدمة في ممارسة «الخداع» أو ما يطلق عليه أكاديمياً «التأثير» الإعلامي.
اضافةتعليق
التعليقات