كائن حي يتواجد داخل المجتمعات لتحيا به، تستمد منها كيانها وقوتها الثقافية والسلوكية وتثبت ركائز معتقداتها، وهي ليس من صنع فرد أو مجموعة إنما حاجة ملحة للأمم حتى تتواصل ذاتيا وخارجيا، ومع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي أصبح هذا الموروث السامي في خطر، وأضحى الحفاظ على أصوله ومتعلقاته أمرا أكثر ضرورة من ذي قبل، ويتعاظم الأمر عندما نجلس إلى طاولة حوار الثقافات وتعدد الحضارات فهي هوية رسمية للعرب في المحافل الدولية.
يبدأ اكتسابها منذ الولادة، تتراكم مدخلاتها من مجتمعهم الصغير عبر الأصوات والكلمات والجمل التي تتعامل بها أسرهم، ثم في مراحله المتقدمة يحاول استخدام ذلك الخزين، بيد أن وسائل الاعلام الحديثة والأجهزة اللوحية التي تترك لساعات بين أيدي الأطفال، غيرت وبشكل واضح لأساليبهم اللغوية تبعا للوسيلة التي يتعلق بها ويتابع برامجها ونشاطاتها وماتعرضه من محتوى.
ومن هنا يبرز دور التقنيات الحديثة في تغيير وجهات الأجيال وأفكارهم والتأثير على سلوكهم وتطلعاتهم.
إذ إن السطحية السائدة اليوم بين الشباب واللامبالاة وغياب لغة الحوار، وتغيب المنطق والعقلانية أبرز سماته التي رسختها تلك الوسائل ونجحت في تفكيك أواصر المجتمع والترابط الأسري، من دون أن يكون شعور من قبل المتلقي بخطورة الموقف واتخاذ إجراءات حازمة للحفاظ على الأجيال من الضياع، وما ضعف الرصيد اللغوي وشياع الألفاظ النابية حتى على المنصات الالكترونية عند أغلب الشباب إلا نتائج ملموسة لذلك.
لغة ماقبل المدرسة
اختلف علماء اللغة في تحديد اتجاهات عمليات اكتسابها، وتعددت النظريات حول آلياتها الأساسية وأهم طرائق بنائها، فهناك من أشار إلى العوامل البيئية وهم أصحاب النظرية السلوكية التي وضعها واسطن وسكينر وتوضح مجموعة من الفنيات التي تغير سلوكيات الانسان.
لابد أن يحدث الاقتران الشرطي سواء كان بوجود الشرط الاجرائي أو بغيابه، إذ بإمكان الفرد وخصوصا الأطفال أن يتعلموا من خلال النمذجة والتقليد، وتحاط كل تلك المراحل بعمليات معرفية وفكرية تتكامل مع بعضها لتعطي النتيجة النهائية للسلوك.
إلا أن بياجيه يختلف بنظريته العقلية مع السلوكيبن، يرى أن اللغة تنشأ من ردود أفعال الأطفال تجاه الأشياء في محيطهم، إلا إن العلاقة بين المثير والاستجابة التي اعتمدها سكينر وأتباعه، أساسها اللغة وهي واحدة من أهم المهارات الحياتية التي يجب اتقانها، ولا ننسى أنهم يتمتعون بحيوية عالية فإنهم يستجيبون وفقا لاحتياجهم النفسي في خضم ذلك.
وكلما زاد التعرض للنماذج كلما زاد التأثير والتلقين وترسيخ السلوك اللغوي ومن خلاله تتكون مجموعة من التراكيب اللغوية المعقدة وتدريجيا لتدعيم السلوكيات اللغوية والعبارات والألفاظ الإيجابية عن طريق الحكاية واللعب ينمو خياله وفهمه متزامنا مع تطور لغته ومفرداته لتصبح سلوك نهائي.
وينقسم علماء التربية إلى فريقين، الأول يؤكد إيجابية استخدام التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي من قبل الأطفال، معتقدين أنها تنمي خيال الطفل وتوسع أفقه المعرفي من خلال المادة المعروضة التي لم تكن تخطر بباله لو لم يشاهدها على تلك المنصات.
ناهيك عن الحس الذوقي الذي يتشكل لديهم واثراء النمو المعرفي وتعزيز حصيلته إذ يكتسب الصيغ والتراكيب ويعمل على استخدامها في حياته اليومية وتلك لم تكن إذا اقتصر الاعتماد على الأهل فقط، بيد أن الغشية التلفزيونية التي تصيب بعضهم نتيجة الإدمان التلفزيوني أو المواقع الالكترونية، هو ما جعل الفريق الآخر يستند إلى السلبية المحضة لتلك الوسائط على التحصيل اللغوي للأطفال.
إذ إن اختلاف اللهجات أو التشوهات التي تظهر في تلفظ بعض حروب العربية الفصيحة سبب مشكلة كبيرة لدى بعضهم وخسر آخرون حاسة النطق تماما نتيجة ارهاق خلايا المخ في التركيز لأوقات طويلة والاستماع لتلك البرامج، والتوحد هو واحد من أخطر الأمراض التي يفقد فيها الأطفال كليا القدرة على الكلام والتواصل مع العالم الخارجي، وعليه فإن الإسلام وضع قاعدة رصينة لكل التعاملات الحياتية صغارا وكبارا "لا افراط ولا تفريط".
الناطق الرسمي باسم الأمة..
وطن فسيح، نمارس من خلاله حرية التعبير والتفكير، عالم رحب يتردد من خلاله صدى التغيير، فهي الناطق الرسمي باسم الأمة، تواجه اليوم أخطار تتفاقم باطراد، نتيجة لهيمنة النظام العالمي الذي يسعى لفرض اللغة الأقوى.
الدكتورة نادية بن ورقلة أستاذة علوم الاتصال في جامعة زيان عاشور الجزائرية أكدت أن "ما دامت السياسات الإعلامية هي مجموعة مبادئ و قواعد وضعت لترشد الأنظمة في سلوكها، فمن الضروري أن يكون في مقدمة هذه المبادئ والقواعد إيلاء اللغة العربية الأهمية التي تستحقها، والحفاظ عليها باستخدامها على النحو السليم، مع السعي من أجل أن تكون أداة تواصل طيعة بين طرفي العملية الإعلامية، المرسل والمرسل إليه، المتلقي للرسالة الإعلامية".
وأضافت "أن وضع الفصحى في وسائط الإعلام عموما وضع غير مريح، و لا أريد أن استعمل تعبيرا آخر، سواء على مستوى الإعلامي، أو مستوى المتلقي، أكان قارئا أم مستمعا أم مشاهدا، والإعلامي كما لا يحتاج الأمر إلى شرح، هو نتاج المدرسة أو المعهد أو الجامعة التي يتخرج منها، إذ تقدر جودة التعليم والتكوين والتأهيل والتدريب بمدى تلقين اللغة والتخصص فيها والتمكن منها".
ويجدر الإشارة هنا أن اللغة لا تؤخذ من وسائط الإعلام فحسب، و إنما تؤخذ من على مقاعد الدراسة ومن أفواه المدرسين، ليس في محل التعرض للمنظومة التعليمية من الابتدائية حتى الجامعة، إنما هي مسؤولية كبيرة لابد أن يتحملها أصحاب الاختصاص من أجل الحفاظ على الموروث اللغوي الذي يعد سجل تاريخي للمجتمعات العربية كافة.
بن ورقلة استدركت القول: "إن اللغة حجر الأساس في العملية الإعلامية على تعدد قنواتها وتنوع وسائلها، وكلما كانت سليمة محافظة على قوتها ونصاعتها وافية بمتطلبات التعبير عن روح العصر، كان الإعلام ناجحا في إيصال الرسائل إلى الجمهور العريض من المتلقين، فإذا فسدت فسد الذوق العام والفهم وتعذر التواصل، فتكون البلبلة ويحدث الخلل في ادارة الآراء.
إذ يجب أن تنسجم عباراتها مع طبيعة الأحداث المعالجة، فمن الواضح أن أسلوب نقل المعلومة من مختبر البحث يختلف عن رصد حشد من الناس، وبذلك يمكن نعت اللغة الإعلامية بأنها لغة كل شيء، فإن أدواتها التعبيرية والفنية ينبغي أن تستجيب لمقتضيات التنوع، وكذلك لخصوصيات الوسيلة الإعلامية".
غربة اللغة
إن استشراء الضعف اللغوي في وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي نتيجة الإبحار إلى عمق العامية التي لا تصل للفصحى بصلة ناتجة من تداخل مفردات أجنبية تم تأصيل جذورها في المجتمعات العربية.
وهنا تحدد الدكتورة بن ورقلة مظاهر الصدمة العولمية بثلاث مراحل
"المستوى الشعبي، والتقني، والخطاب الرسمي، ولأن الأخير من أقوى المؤثرات في وسائل الاعلام الحديثة، والمتابع والمهتم بالشأن اللغوي يلحظ كيف قلب التطور التكنولوجي موازين استخدام اللغة العربية، وانقسمت إلى لغات متعددة، وتفننت وسائله في ابتداع مصطلحات جديدة وكلمات دخيلة، فاقمت الهوة بين الجيل الجديد من مستخدمي التقنيات المعاصرة والإعلام ولغة الضاد، وسط قلق الخبراء والمهتمين".
وتضيف إن "التناحر السياسي وحب الذات والإقليمية فرضت على الإعلام لتكون هناك لغات متعددة ولهجات متباينة، جعلت من اللغة في غربة حقيقية ونشاز أمام الامتزاج اللفظي عند الأغلبية، فكثرت الأشعار العامية في الصحف والمجلات وافتتاحيات البرامج ومحتواها، وأخذ بعض المسؤولين يستعملونها في خطاباتهم الرسمية، وقد ساد في السنوات الأخيرة سيطرت بعض اللهجات العامية على الإعلام العربي، وامتد الترويج لها حتى في برامج الأطفال سواء من حيث تقديم الطفل بشكل عام أو من حيث المسلسلات الكرتونية..
من جانب آخر روج الإعلام للغات الأجنبية على حساب اللغة العربية، وهو ما خلق تهافت كبير وسط الشباب العربي المثقف نحو اللغات الأجنبية".
مفترق طرق
”إن اللغة العربية تقف اليوم في مفترق الطرق، فإما أن تتجدد وتتطور لتواكب المتغيرات اللسانية والمستجدات في الوظائف اللغوية، لتحيا، ولتقاوم، ولتثبت وجودها، وإما أن تنكمش وتتقوقع فتتراجع وتضعف"، هذا ماحذرت منه بن ورقلة مقدمة مجموعة من المقترحات العملية فب إطار تصور متعدد الأوجه للارتقاء برداء الفكر العربي، من خلال وسائل الإعلام وتحديدا الصحافة المكتوبة:
أ- فرض قوانين صارمة تخص الالتزام بالعربية الفصحى كلغة أساسية لجميع وسائل الإعلام العربية.
ب- تفعيل مادة قواعد اللّغة العربية وعلم الدلالات والتأكيد عليها في المقررات الدراسية لكليات الإعلام.
ج- إصدار قواميس تتعلق بالخصوصيات اللغوية لكل المؤسسات الإعلامية.
د- تفعيل التعاون بين أقسام اللغة العربية في الجامعات من ناحية، والهيئات الرسمية للدولة ووسائل الإعلام من ناحية ثانية.
ه- تنظيم مهنة المصححين اللّغويين للمقالات الصحفية وإنشاء نقابة خاصة بهم.
وبناء لما تقدم، فإن المسؤولية التي تقع على وسائلنا الإعلامية، والصحافة المكتوبة على وجه الخصوص كثيرة وكبيرة.
وفي خلاصة الحديث نحتاج الى وقفة جادة من القائمين على هذه الوسائل بإدراك الجرم الذي يقترفونه بحق لغة القرآن الكريم، إذ إن الكلام وحده لن يجدي نفعا فالادراك هو أهم خطوة للإصلاح، لما تتم محاربة ثم تجريم كل من يتحدث أو يكتب بها في أيّ وسيلة إعلاميّة كانت، وبالتالي إلزام الإعلام برفض الإعلانات التجارية المصوغة بالعامية أو بلغة أجنبية، وعدم بثها أو نشرها حتى تحول إلى الفصحى، فلنعمل تحت راية احتضان مآثر اللغة من جديد في سبيل الحفاظ على الإرث الفكري والحضاري للعربية".
اضافةتعليق
التعليقات