عندما دقَّ هلال شهر رمضان أبوابنا فرحاً مستبشراً، كأنَّ البعض طلب منه الوقوف قليلاً قبل الدخول، فشحن هاتفه الجوّال وفتح الكاميرا مع بثٍ مباشر، وخاطبه قائلاً: الآن تستطيع التفضّل، حللتَ أهلاً وسهلاً ياشهر الخير أعادك الله علينا بالخير واليمن والبركات!.
حسناً، ماذا في جعبتك يا أشرف الشهور، تريّث، هاهو ذا صديقي يسأل عن مائدة اليوم، سألتقط صورة للتحضيرات الأولية لطعام الافطار، بل سأرسل مشاركة جماعية لكروب الأقارب، وبعد ذلك أستقبل وأتبادل التهاني وأطلّع على أحدث المسلسلات والبرامج التلفزيونية لهذا العام..
أوه لقد نسيت أرجو المعذرة، لقد عقدت العزم أن أتوقف أو أقلل من هذه الماديات والمُلهيّات الدنيوية، سأهتم في هذه الأيام بالأمور الروحانية فقط، إذن، سألتقط صورة معبّرة لسجادة الصلاة ومن زاوية مظلمة قرآني المذهّب وبلقطة احترافية أخرى كتاب الأدعية وتتوسط صفحاته مسبحتي الفيروزية، هذا والهلال لايزال ينتظر على عتبة البيت ويستعد للمغادرة وقد أصبح حزيناً واجماً وهو الذي جاء محملاً بالهدايا والآخر مشغول ولاهٍ عنه!.
ماذكر أعلاه، ليست قصة حزينة تُحكى للأطفال قبل شهر رمضان للعبرة والاتعاظ، بل هي قصة قصيرة للكبار، هي حقيقة لامجاز مع بالغ الأسف، هذا الشهر الفضيل يحل علينا في السنة مرة، شهر مبارك أنفاس الصائمين فيه تسبيح ونومهم عبادة، ساعاته أفضل الساعات ولياليه أفضل الليالي، تُغل فيه الشياطين، لكن تبقى النفس الأمارة وأدرانها ومنها التعلق الالكتروني اللامعقول والادمان على وسائل التواصل الاجتماعي بمنصاتها المختلفة.
كلنا يعلم أن هذا الشهر عبارة عن محطة، نكون في رحابها بعد أحد عشر شهراً، وكل المسلمين في العالم هم في ضيافة الرحمان على مائدة عامرة، وأي مائدة، لن تستطيع أحدث الأجهزة الالكترونية وأكثر الكاميرات احترافاً ودقة التقاط صورة حقيقية لها، لأنها وببساطة مائدة معنوية بنسمات سماوية مليئة بالعطايا الربانية.
في الحقيقة، نحن طوال العام نوثّق تفاصيل حياتنا اليومية، نجاحاتنا، خيبات أملنا، رحلاتنا الترفيهية، وجمعاتنا مع الأهل والأصدقاء، عن طريق الصور والمنشورات والتغريدات...
كل هذا لابأس به، فمشاركة الأفراح والأتراح وحب المواساة ومشاركة اللحظات السعيدة والحزينة حرية شخصية، لكن العجب العجاب هو توثيق لحظات المناجاة والأدعية الخاصة مع رب العباد.
تقول إحداهن: كنتُ يوماً في إحدى جلسات ترتيل القرآن المقامة في ليالي رمضان، لم أتفاعل كثيراً بسبب كثرة التقاط الصور من إحدى الجالسات بقربي، حتى الحضور انتقد تلك الحالة وبدأوا بتغطية وجوههن، مع أنها أقسمت بأغلظ الايمان أنها لن تظهر أشكالهن، وفي ختام الجلسة قُرئ دعاء ومناجاة بصوتٍ حلوٍ شجي، سالت دموع التأثّر من تلك المصوّرة، وما إن رأت نفسها بهذه الوضعية الجميلة حتى تناولت هاتفها والتقطت سيلفي سريع يوثّق اللحظة الحالية.
إنَّ للصيام فلسفة عميقة الكثير منا غافل عنها، فإن لم نستطع الصوم عن هواتفنا وبرامجه ووسائل التواصل الاجتماعي، أضعف الايمان لنجعل منها أكثر جدوى وعمقا، لن ندعو هنا إلى وضعها بعيداً عنّا والدخول في صومعة العبادة الفردية، لأن الله سبحانه جعل هذا الشهر كالحج وصلاة العيد والجماعة مظهر ورمزية للتكافل الاجتماعي والتراحم مع الأقارب والأصدقاء وإن كانت الكترونياً فقط.
ولكن ليس من الصحيح مشاركة لحظاتنا الايمانية مع كل من هب ودب ونفقد بذلك أجر الاخلاص لحب الظهور والرياء.
لتكن منشوراتنا في هذا الشهر الفضيل أكثر فائدة، كيف نتغيّر في رمضان مثلاً، كيف نقلع عن عادات سيئة وسلوكيات خاطئة، مشاركة برنامج عبادي أو تربوي أو أخلاقي أو حتى ختمة قرآنية بصورة ميسّرة للأطفال..، نشر أحاديث أهل البيت وثواب تلاوة القرآن والأدعية الرمضانية التي هي ينبوع عظيم لاينضب..
وأخيراً، على المؤمن العاقل أن يعي أنه في شهر رمضان هو في سبق ايماني وروحاني وتنموي على كل الأصعدة وليس في سبق صحفي يتعكّز على الأخبار العاجلة من أرض الحدث!.
اضافةتعليق
التعليقات