يُقال أن السياسة ليس لديها عدو دائم أو صديق دائم بل هناك مصالح دائمة. مقولة حقيقية يترجمها الواقع بجدارة، فنحن نرى على الدوام وبين ليلة وضحاها كيف يتحول أعداء الأمس إلى أصدقاء والعكس صحيح، ولاعجب؛ فالمصلحة السياسة فوق العلاقات وفوق المبادئ وفوق الأخلاق أيضا..
بطبيعة الحال هناك جدل تاريخي طويل بين السياسة والاخلاق، فما هو القاسم المشترك بينهما، وماهي نقاط الخلاف الرئيسية؟!
لنأتي أولا لإحدى التعريفات لهما؛ فالسياسة: طرق واجراءات مؤدية الى اتخاذ قرارات من أجل المجتمعات والمجموعات البشرية.
والاخلاق: هي مجموعة القيم والمثل الموجهة للسلوك البشري نحو مايعتقد انه خير وتجنب ماهو شر.
فالنقاط المشتركة هي بعض المفاهيم ومنها التعامل مع البشر أما الطرق فهي التي تختلف..
عندما نأتي للسياسة نجد مفردة (المصلحة) ركن رئيسي في هذا العلم، وهنا يتناهى الى أسماعنا شعار ميكافيلي والذي يتبناه أكثر الساسة اليوم وهو: الغاية تبرر الوسيلة. والمصالح فوق المبادئ.. وأهم معالم هذه النظرية: الكذب، العنف، الظلم، عدم المساواة وقمع الحرية..
أمّا الاخلاق ف (الواجب) هو المصطلح الاساسي فيها، وأهم معالم هذا النظام: الصدق، التعامل السلمي مع المعارضين، الحرية، الانصاف، العدالة..
ولكي نتعمق في هذه المفاهيم أكثر وتتوضح أكثر جدلية اخلاقيات السياسة، علينا أن نبحث قديماً وحديثاً عن نموذج وقدوة، نظرية وتطبيق، فلسفة ومثال..
الكثير من الطواغيت على طول التاريخ ساروا على خُطى نماذج معروفة حتى أن بعضهم اتخذوا ذات الأساليب، فالطاغية صدام قتل وعذّب وسَجَنَ وشرَّد على طريقة الحجاج والمنصور، ويُقال أن هتلر كان يضع كتاب ميكافيلي تحت وسادته، وكذلك ستالين وموسوليني، والكثير من السياسيين لايلتزمون بالمواثيق ولابالعهود ولابالوعود على طريقة معاوية الذي وضع معاهدة الصلح تحت قدميه..
وعانت اغلب المجتمعات من أنظمتها السياسية (الميكافيلية) ومن أزمة تخليق السياسة أو تسييس الاخلاق..
هذا من جانب، ومن جانب آخر، نرى نماذج مشرقة من حكّام سياسيين التزموا بالأخلاق ولو في بعض البنود، فغاندي قاوم الاستعمار من اجل استقلال الهند بعدالة وانصاف وقاد ثورة سلمية ناجحة ضد التميير والنبذ العنصري، وكذلك مانديلا، وبعض الحكام في دول اوروربا يعتبر منهج الحرية منهج أساسي في نظامهم السياسي والوزير يشعر بآلام الشعب ودولهم تقدّس القيم والمبادئ وتتبنى مواثيق الامم المتحدة وتلتزم بها، والصدق والمسؤولية هي من واجبات من يتسلم مقاليد الحكم وإن يرتكب السياسي أي خلل أو تقصير يقدم استقالته فوراً ويقدّم اعتذارات..
تلك النماذج الجيدة نهلت من معينٍ صاف واولئك الحكّام وإن كانوا غير مسلمين إلا أن مبادئهم إسلامية بحتة، فمن مناهج الدين والقرآن الأساسية؛ الصدق والحرية والعدالة والانصاف.. وهم وإن تركوا الأحكام الاسلامية ولكنهم أخذوا بعض القيم التي خدمتهم في الادارة والاجتماع والتنمية والصحة..
ومع ذلك فغاندي ومانديلا لم يقضوا على الفقر في الهند وافريقيا، وفي دول اوروبا زادت الحرية عن حدها فانتشر الفساد، وهناك خلل جلي في المنظومة الاسرية وحدثت أزمات اقتصادية في بعض دولهم وثار الناس بسبب تضخّم الضرائب وهذا لم يحدث سوى لإبتعادهم عن قيم إسلامية أخرى..
لقد أخذوا النزر القليل فتطوروا ونجحوا أيما نجاح، ونحن في بلداننا لم نأخذ شيئا فتخلفنّا عن تلك الدول عشرات السنوات الضوئية، وكما يقال "لو كانت الادارة العربية جيدة لكانت السياسة جيدة والاقتصاد جيد والاعلام جيد..".
فلازلنا اذن نبحث عن قدوة متكاملة تجمع كل القيم..
كان هناك قبل مئات السنين حاكم سياسي عظيم ذو أخلاق عالية، حَكَم قرابة الخمسين دولة باعتبارات عصرنا، هو أمير المؤمنين علي الذي جمع هذين المتضادين، وقد كنّا نعتقد أنهما كخطين متوازيين لايلتقيان!.
لو تصفحنّا العهد الدولي للإمام علي لواليه على مصر مالك الاشتر النخعي، وقد تناول أدق وأهم قضايا الحكم والادارة الاخلاقية، لقبلتم توافقهما.. وهذا العهد لكاتبه العبقري أخذت الأمم المتحدة احدى مواثيقها منه واليوم يعتبر قانوناً في التعاملات البشرية..
نعم، هم لايتوانون عن أخذ كل ماهو قيّم، فغاندي لايخجل عندما يقول: علمنّي الحسين..
وصدق من قال: "عندما يتكلم السياسي اليهودي رافعاً بيمينه كتابه المقدس، فهل يسكته سياسي عربي! يستحي من كتابه، ولايذكره لافي محراب ولافي ميدان!!".
فالامام علي كان بحق رجل أخلاق ودين قبل أن يكون رجل سياسة ورجل حرب، ومقولته المشهورة لمن ينكر ذلك ويقول أن معاوية أدهى، فيرد صلوات الله عليه: "ومامعاوية ادهى مني، ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من ادهى الناس).
وعهد الامام غيض من فيض من علم أمير المؤمنين، ومع ذلك هو لوحده منظومة أخلاقية سياسية متكاملة وهو أطول عهد وأجمعه للمحاسن وفيه الفقه والاصول والسياسة وعلم الاجتماع..
وحري بكل حاكم أو قائد أو قائم في دولة أو حركة أو حزب أو منظمة أن يضع تلك الصفحات المملوءة ذهباً نصب عينيه..
تأملوا العبارات اللطيفة عندما يعلّم الامام واليه بكيفية تعامله مع المحكومين:
"ولاتندمن على عفو، ولاتبجحن بعقوبة، ولاتسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة".
فأمير المؤمنين لايدعو الى اصدار العفو فقط على المواطنين بل يدعو واليه لعدم الندم، والمنيّة كما نقول، فهذه من الامور التي يجب أن تتوفر في الولاة، وأيضا عدم الفرح بعقوبة انزلها على احد، فالسلطة واغراءاتها تزرع تلك الصفات في الحاكم فليكن على حذر منها..
ولاحظوا قمة الاخلاق والحلم عند الامام عنما يوصي مالك: و"لاتسرعن الى بادرة وجدت منها مندوحة"، فعندما يظهر على مواطن قول أو فعل عند الغضب، لاتسرع الى اعتقاله او معاقبته مادمت ترى مفر ومخلص، بل اترك آثار الغضب عنده حتى يهدأ!.
إنها السماحة إنها الانسانية..
وفي مقطع اخر يقول (ع):
"وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وأن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة".
فإن كان الاهتمام فقط للمقربين او لفئات خاصة من الحاكم على حساب سائر الناس فعندئذ تقع الازمات والثورات..
ففي هذا المقطع يبين الامام مدى أهمية رضا الاكثرية الساحقة من الشعب وتنفيذ رغباتهم المشروعة وهذا مقياس لنجاح الحكومة والعكس همو سخط الشعب..
فالعامة هم الذخيرة للدولة بخلاف الخاصة الذين هم وكما يكمل (ع):
"وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف وأسأل بالالحاف، وأقل شكرا عند الاعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة".
وهنا نفهم كيف استغل الشيوعيين بذكاء النسبة الاكبر في البلاد من ذوي المهن والحرف فتسلقوا على أكتاف الفلاحين والفقراء هذا بدايةً ولكنهم لم يلبوا احتياجاتهم فيما بعد ففشلوا..
على النقيض من الكثير من الحكام والملوك ومنهم شاه إيران الذي تقرّب من بعض الشخصيات فكيف كان مصيره؟! وكذلك بعض الحكام اهتموا بأمور التجّار والاغنياء وكانت النتيجة ثورات وانقلابات ضد حكوماتهم..
فالعامة هم على تعبير الامام:
"وإنما عماد الدين، وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم".
فمن باب أولى أن يهتم السياسي ويلبي متطلبات الشريحة الاوسع من الناس، فإن كان الاعم الاغلب في المجتمع هم شباب عاطلين عن العمل فليكن الجهد مركزا عليهم وليس على أمور ثانوية تعتبر غير مهمة بالنسبة للمواطن الفقير..
ولانقول هنا أن يتغاضى الحاكم عن الفئة القليلة المتبقية، فالعدالة ميزان ومقياس واضح فالامام قال بدايةً: "أعمها في العدل"، بل أن لايكون جل اهتمامه مركزا عليهم على حساب البقية..
ألا ليت الامام يعرف مقدار المحسوبيات والواسطات التي تحدث بدون استحقاق في يومنا لكم عزل ولاة عن مناصبهم؟!.
وقد يقول قائل، الحديث عن الامام ونظرياته السياسية حديث مثالي لايقبله الواقع اليوم فهو معصوم ومن يصل إلى أخلاقه وتعاملاته؟!
نعم، هو معصوم ولكن ولاته ك مالك وكميل وغيرهم ليسوا معصومين ولكنهم مطيعين لإمامهم..
هذه واحدة واخرى أن الائمة عاشوا في دار أسباب ومسببات وتعاملوا مع الناس ضمن ذلك وليس عن طريق الاعجاز العلمي أو السياسي، إلا في حالات استثنائية استوجبت ذلك، وماحكم الامام علي وإدارته الحكيمة إلا كذلك، وإن كانت نظرياته غاية في المثالية فما جدواها اذن؟! بل هي مثال واقعي لمن يروم النجاح في ادارة الدولة وكسب قلوب الجماهير.
وقبل أن يأتي من يتهمنّا بالغلو وبذكر علي وليس النبي محمد (ص)، نقول: حكم علي هو حكم رسول الله ودستورهم هو إلهي واحد وهو القرآن، فهو القائل (ص): "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها"، ثم إن الامام في عصره كانت القضايا السياسية في أوجها وخصوصا مع فتنة مقتل عثمان، أما في زمن الرسول فكان دوره الاساسي تثبيت العقائد وأصول الدين في المجتمع الجاهلي..
وعودة الى واقعنا المؤلم، اليوم نحن لانريد فقط دولة ديمقراطية وعدالة وقانون و_الاخيرة بمعناها الحرفي وليس الاصطلاحي_، نريد دولة أخلاق أيضا مادمنا نعيش على أرض علي وعاصمته..
لقد انتخب الشعب مرة أخرى ساسته، فإن ذهبت الثقة مرة أخرى واضمحل الصدق في الوعود التي اغدقوها علينا ستتهدم كل الجسور معهم، فياليتهم يحذون حذو الأشتر ويتبعون تعاليم امير المؤمنين، فأمامهم القرآن ومنهج رسول الله، وعهد الامام علي حُفظ بيد الغيب من التلف ليكون حجة عليهم الى يوم القيامة..
اضافةتعليق
التعليقات