وبلغت شمس الأربعين كئيبة، تكاد تخطف روعتها أجواء المأساة، وغصت آفاق كربلاء بآهات حزينة، وانتشرت في ساحاتها أشباح الموت، قد عادت اليوم بطلة كربلاء، بصمتها الذي يضج بصخب أفكارها، يوجع القلب حزنها الدفين، تسند رأسها إلى الصبر وتتجلد بمصيبتها، لتجدد اللقاء مع إخوتها وأهل بيتها، تسير بخطاها الأبية نحو وادي الطفوف، مع قافلة تضم الأيتام والنساء الثكلى، مكبلين بأغلال أدمت معاصمهم، وتقيحت شفاههم من الظمأ، كل هذه صور رسخت بأذهان الموالين منذ سنين خلت.
(بشرى حياة) التقت موكب جمهور الحيدرية الذي اعتاد تجسيد ركب السبايا حينما يدخل كربلاء في هذه الأيام الأليمة، فتتصدره الحوراء زينب والإمام السجاد عليه السلام..
(جواد الشمر) اللقب الذي تداولته عائلة الحاج المرحوم محمد جواد كاظم حسون، التقينا بولده البكر عقيل محمد جواد الذي مثل دور والده بعد وفاته حيث قال: لقد ورثت عن أبي ثروة لا تقدر بثمن، اشعر بفخر كبير لكوني جسدت دور ابي من بعد استشهاده، إذ اشتهر أبي باسم "جواد الشمر" كونه تميز بتجسيد شخصية الشمر، وقد شارك أبي منذ طفولته بإحياء موكب (التشابيه) لمسير ركب الحسين عليه السلام، في يوم دخوله إلى كربلاء يوم( 6) محرم، ويوم رجوع السبايا ( 11) صفر. ولهذه الطقوس ذكرى منذ الأزل، فقد تزاولها أجدادي منذ عام (1930 ) إلى يومنا هذا، حيث توارثتها عائلتنا عبر الأجيال، والكثير من القصص سمعتها على لسان أبي، عن محاربة النظام السابق لهم، وزجهم بقعر السجون، ومنهم من تم إعدامه، ومحاولة ردعهم بشتى الطرق، لكنهم لم يتوقفوا قط، حتى إن المخابرات قامت بمصادرة الكثير من المقتنيات التي تخص موكبهم، كل ذلك من اجل إيقاف القضية الحسينية، وبرغم كل ما فعلوه ازدادوا قوةً وتحديا، كأنهم يقولون لهم نحن سنبقى نسير على نهج الحسين عليه السلام، شئتم أم أبيتم.
وتابع حديثه قائلا: لقد كان أجدادي يقيمون مآتم العزاء والتشابيه داخل البساتين، ولم يتوقف حبهم لإحياء تلك الشعيرة التي عشقوها حد التقديس، وبمرور السنين المتوالية، بقيت هذه العادات من إقامة (التشابيه) وحرق الخيام وغيرها، نتوارث أدوارها إلى ما عليه نحن الان، وقد عمد أبي بتشييد دارنا البالغة 250 متر حسينية ومخازن، لأجل أن تبقى ذخرا حسينيا نتتوج به لأحياء موكبنا، من مجالس عزاء، وتحضير الطعام لتقديمه للزائرين، والكثير من الخدمات المتنوعة، كل ذلك لأجل خدمة الحسين وأهل بيته عليهم السلام .
فيما قال الحاج هاشم الحداد (50) عاما: توارثنا هذا الموكب من أسلافنا، وقد جسدت الكثير من الأدوار، منها حبيب بن مظاهر وبرير بن خضير، وقد ضم موكبنا ما يقارب150 رجل مشاركين بتجسيد شخصيات الصحابة والجيش من راجلين وخيالة.
وأضاف الحداد: وفي أول يوم من صفر من كل عام نبدأ بالتحضير لمراسيم موكب الضعن، الذي يتمثل بالسبايا، وركب الحوراء عليها السلام، وذلك بهودج بالإحياء لمحملها، ومحامل بقية النساء، ومحامل أخرى من الرماح لرفع الرؤوس، وتجسيد شخصية الإمام زين العابدين عليه السلام، وتحضير الأزياء المناسبة، حيث نقوم بتجديدها بين عام وعام إن لزم الأمر، وذلك من عدة بلدان منها إيران والهند وباكستان..
أما الجمال والأحصنة، يتبرع بها من الموالين الحسينيين من مناطق مختلفة، منها القاسم والنجف، وبدورنا نحن نتحمل تكاليف سفرها ذهابا وإيابا، اذ تصل تكاليف سفرها ما أكثر من 6ملايين، من غير توفير الطعام الذي يكلفنا أحيانا( 400 )ألف دينار يوميا، ويبلغ طول موكبنا إلى 1 ونص كيلو متر، إضافة إلى مشاركة فيه لمواكب اللطم بالزنجيل.
وهناك الكثير من الحسينيين الذين يساهمون بإحياء هذه المناسبة، منهم خادم الحسين محمد الاسدي، الذي يقوم بصناعة زينة الأحصنة والجمال، وخادمي الحسين سجاد وهاشم اللذين يشرفان بترتيب الأدوار، وتوزيع الملابس على كل المشاركين، من اجل أحياء هذه الشعيرة التي ننتظرها بشغف. اسأل الله أن يوفقنا لإكمال رسالة أجدادنا للقضية الحسينية، فلم يتوقف عمي الحاج جواد الشمر عن مواكبة هذه الطقوس، حتى بعدما جلس على كرسيه المتحرك بسبب بتر ساقه اثر المرض، فقد كان يقود مسيرة الأربعين ويسير بها على كرسيه، فلم يسكن النبض الحسيني داخله حتى آخر أنفاسه الأخيرة .
خلود الثورة الحسينية
وحدثنا الشيخ عبد الرزاق محمد علي حول خلود الثورة الحسينية قائلا: تعتبر واقعة الطف من أكثر المعارك جدلاً في التاريخ الإسلامي، فقد كانت لنتائج وتفاصيل المعركة آثارا سياسية، ونفسية، وعقائدية، لا تزال موضع جدل إلى الفترة المعاصرة، حيث تعتبر هذه المعركة، أبرز حادثة من بين سلسلة من الوقائع، التي كان لها دور محوري، في صياغة طبيعة العلاقة بين الطوائف عبر التاريخ، وأصبحت معركة كربلاء وتفاصيلها الدقيقة، رمزا للشيعة ومن أهم مرتكزاتهم الثقافية.
واضاف محمد علي: ان ملايين الزوار الكرام من عموم المسلمين، من مشارق الأرض ومغاربها، ومن خارج العراق وداخله، تتدفق على مرقد سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، في زيارة الأربعين، لأداء مراسيم هذه الزيارة السنوية المليونية، ولإحياء مبادئ الإمام الحسين، وأئمة أهل البيت عليهم السلام، هذه الملايين تحمل في صدورها المشاعر الجياشة، والعواطف الصادقة والإنسانية الراقية، وتحمل من الخشوع كنوزا لا تحصى ولا تُعدّ، فهي في الواقع وكما يلاحظها المتابع مدججة بالعواطف، ونلاحظ بعض الناس، يعتبرون هذه الشعائر، تخلف فكري، وخرافات وبدعة، أحب أن أقول لهؤلاء الذين ينطبق عليهم (فاقد الشيء لا يعطيه) لان الله عز وجل يقول (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) وهذا ما قصده من اللطم وصور تمثيل (التشابيه) وغير ذلك من المواساة.
وتابع حديثه قائلا: إن الحسين (ع) صاحب فضائل ومناقب، وصاحب المقامات والمعارج، الذي يتمنى المرء ان يتحلى بواحدة منها، لتزيده شرفا ورفعة، فبمجرد ان نلقي ببصرنا على جانب من سيرته المباركة وإذا بالمكارم والمآثر، تسطع أمام ناظريك، حتى تحتار في تشخيص أيها اجل، وأبهى من غيرها، فنجد سلام الله عليه قمة سامقة في العلم وفي العبادة والقيادة.
لذلك تكون زيارة الأربعين، عاملا مساعدا، لتثقيف الملايين من المسلمين، ورمزا لخلود الثورة الحسينية، ويمكن أن تكون هذه المناسبة الدينية، منطلقا للنهوض بملايين المسلمين أينما كانوا.
اضافةتعليق
التعليقات