لازالت نظراته الأخيرة تعصف ذاكرتي، رجولته العظيمة وكلامه الغريب ترك في نفسي بصمة مجد من المستحيل ان تُنسى!، اخبرني سابقاً بأن ما يفصله بين الأرض والسماء اكثر من مجرد موت!، تراءى لي بأنه عميق جدا ولا ينظر الى الحياة من مرآة الناس.
نبرته وهو يتحدث عن الحياة الأبدية تختلف، أمّا الدنيا فقد كان ينظر اليها بعين واحدة، ولا يهتم لملذاتها الزائلة، اذكر جيداً جوابه عندما سألته: ألا تفكر بالرجوع الى حبشة؟، حينها ابتسم لي ابتسامة خفيفة وقال: "لست ملك نفسي حتى يحق لي ان اختار بين امرين!"، قلت له: ماذا تعني بذلك، قال: نذرت عمري الى المولى، من الآن فصاعداً انا ملك الحسين (عليه السلام).
تسليمه المطلق كان محط استغراب الجميع، فعلى الرغم من الجاه والمال الذي كان يتمتع به جده ملك الحبشة (اصحمة النجاشي)، إلاّ ان والده كان شخصاً فقيراً ومخلصاً الى آل محمد (صلى الله عليه وأله وسلم)، وظل والده (ابي نيزر النجاشي) ناصراً لأمير المؤمنين (عليه السلام) حتى اللحظات الأخيرة.
كنت شغوفاً بنصر وهائماً بروحه الجميلة التي كانت تختلف عن باقي رفقائي، عندما التقيت به أول مرة استغربت كثيرا عندما عرفت بأن أصله من الحبشة وليس عربي الأًصل، فقد كان أبو نصر رجلاً وسيماً وذا هيكل فارع وبشرة بيضاء ومن منظره كان يبدو كأنه رجل عربي، وليس حبشي الأصل!.
أول سؤال راودني عن نصر هو ما الذي اتى به وبوالده الى ارض الحجاز؟، فسرد لي قصته وسر توفيقه في دخول الإسلام، حيث قال:
"ان لجدي (اصحمة) اثر كبير في هذا الانقلاب التاريخي الذي حصل لعائلتنا، او بالأحرى الانقلاب الأكبر الذي حصل في الحبشة والذي على اثره تغيرت الديانة من المسيحية الى الإسلام!، فقد كان جدي رجلاً معتدلاً وبتوفيق من الله تلقى كتابا من رسول الله وهو يدعوه من خلاله الى الإسلام وقد قدم الرسول الأكرم البراهين التي تثبت بأن الدين الإسلامي هو دين الحق، فاستجاب له جدي واعتنق الإسلام قانعاً بنبوة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وجسد بذلك أعلى درجات الصدق والولاء للإسلام ولرسوله الكريم (ص).
ففي فترة زمنية مؤقتة عاش جدي في مكة لأن عمه نفاه من الحبشة طمعاً بالمُلك، وفي هذه الفترة التي عاش فيها جدي في مكة ولد ابي (أبا نيزر) فيها واستقر هناك. وبعد وفاة عم جدي، عاد جدي الى الحبشة بطلب من اهل الحبشة واستلم الحكم، ولكن والدي لم يعد الى الحبشة بل بقي في مكة واستبصر دين محمد واعتنق الإسلام، لأولد انا بين كنف محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وآل بيتهم الاطهار، وبقي جدي الحصن الحصين للإسلام والمسلمين في الحبشة الى ان لبى نداء ربه، وعندما سمع الرسول الاكرم (ص) خبر وفاة جدي حزن عليه حزناً شديداً وصلى على جنازته من بعد!.
امّا انا فقد فتحت عيني على هذه الحياة ووجدت ابي انساناً مخلصاً ومسلماً الى محمد وال محمد (عليهم السلام)، فقد عاش ابي (أبو نيزر) فترة ليست بقليلة مع الإمام علي (عليه السلام)، اذ اعتقه الامام (عليه السلام) عندما كان صغيراً من احد التجار في السوق ثم جاء به الى الرسول الكريم (ص) فأسلم له بقلب خالص، وبقي عند النبي حتى لحظة وفاته، وبعد ذلك انتقل الى بيت الامام علي (عليه السلام) فصار عند سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وولد هاشم، ثم بعد ذلك جعله الامام في الضيعتين.
وقد رباني والدي على التسليم المطلق، فقد تعلمت الإخلاص والأمانة والعدل والحب من إمام العدل علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وعشت حياتي خادماً اشرب من ينابيع علومهم الصافية، ونذرت كل عمري تحت أقدامهم الطاهرة إقامة للدين ونصرة للعقيدة، وها انا اشكر الله يومياً على هذه النعمة التي انعمها علي وعلى عائلتي بالهداية والنصرة".
بقيت عيناي تحدقان بفم نصر وهو يسرد لي قصة عائلته الغريبة، حقا يا له من توفيق الهي شمل هذه العائلة ليخرجهم الله من الضلالة ويهديهم الى سبل النور عن طريق رسول الانسانية محمد (ص)، ليحتضر على اثره جد نصر (اصحمة النجاشي) وهو يرتل شهادة ان لا اله الا الله وان محمد عبده ورسوله بعد ما كان معتنقاً للدين المسيحية.
نظرت الى نصر وسألته بعفوية: الا تشعر بأن من حقك ان تعيش برفاهية وعز لأنك حفيد (النجاشي) ملك الحبشة؟، ابتسم لي بعمق وقال: "انا لا أرى نفسي حفيداً لملك الحبشة، انا أرى نفسي حفيداً لخادم الرسول محمد (ص) ولآله الاطهار، وحتى جدي لم يكن مهتماً بالجاه والسلطة بقدر اهتمامه بالإسلام والمسلمين وإقامة الحق والعدل في حكومته واطاعة الرسول محمد (ص) والعمل بما يرضي الله، ويكفيني شرفاً بأن جدي اول من اسلم في الحبشة وكان سبباً لأن يقام الإسلام هناك.. هذا هو ما يثير الفخر عندي وليس المال والثراء!".
كانت نظراته تحمل صدقاً عميقاً.. فرأيت في لمعة عينه أمنية أخيرة، فسألته عنها واجابني: أتمنى أن أكون ناصراً لأبي عبد الله الحسين (روحي له الفداء) في الطف عندما ينادي (ألا من ناصر ينصرني)، ولن يجد حوله إلا أصحابه الخلّص الذين سيكونون في استعداد تام على ان يفدوا حياتهم في سبيل إعلاء كلمة الحق، أتمنى ان أكون انا الشخصٍ الأول الذي يدافع عن حرم رسول الله ويقدم نفسه قرباناً لآله، هداية للأمة واستقامة للدين، فكل مناي ان ألفظ انفاسي الأخيرة بين يدي الامام الحسين (عليه السلام) لأغادر هذه الحياة بشموخ وعزة، وولاء مسلمٍ ناصرٍ غيور!.
عندما لفظ نصر كلماته الأخيرة شعرت بأن شرارة عز ترافق حديثه وتتخالط مع كريات دمي وتثير في نفسي غيرةً حميدة، لقد كان له من اسمه نصيب!، "نصر"، انتصار في الدين والدنيا والآخرة. تعجبت من امر هذا الانسان، يا له من بطلٍ شجاع لا يهاب الموت ولن يجد في الحياة أي لذة اذا لم يستظل بظل اهل البيت (عليهم السلام).
في لحظة واحدة تمنيت لو أكون في مكان نصر، واعيش في كنف آل محمد (عليهم السلام) واستشهد بين يدي سيد شباب اهل الجنة ولكن بعدما فكرت ملياً وجدت ان هذه المنزلة التي وصل اليها نصر تحتاج الى كرامة عظيمة!، فماذا قدمت انا لنفسي حتى انال ذلك، ويشملني هذا التوفيق، واستشهد في هذا الطريق العظيم الذي خطَّ للأولياء فقط، وماذا فعلت لكي استحق هذه المنزلة العالية التي سينالها نصر في حياته ومماته!.
سعى نصر في سبيل تحقيق أمنيته حتى آخر نفس، الى ان حقق مناه وفاضت روحه بين يدي امام زمانه، حيث سجل في الطف أعظم البطولات مع أصحابه الباقون وشهد التاريخ له بذلك.. امّا انا فبقيت بحسرتي طوال عمري أملاً وألماً في أن أنال ربع المنزلة التي وصل اليها نصر في خدمة اهل البيت، واحظى بعناية عترة محمد (ص)، ولكن مادام هذا القلب ينبض في حب محمد واله، اذن هنالك امل ان انال رضا الرحمن واطيع ولاة امره واكمل المسيرة التي ابتدأتها عائلة نصر من المسيحية الى الإسلام ومن الحبشة الى مكة!.
اضافةتعليق
التعليقات