من الصعب ان يفقد التاريخ بعض من ذاكرته، ويعيش حالة من النسيان والتجاهل اتجاه النصف الاخر من الذاكرة، فطالما بقيت احداث التاريخ بين التزييف والتحريف وبين الاضافة والحذف، فأصبح من الصعب معرفة وقائع ودراسة التاريخ واستخراج الدروس والعبر منه، وكما قيل "التاريخ مرآة الشعوب وحقل تجارب الأمم"، فهناك الكثير من التجارب والاحداث التي حصلت في ذلك الزمان وقد خلدتها الاقلام، وما حذفته السلطات بقي التاريخ كما هو عليه الان.
ولو اردنا ان نعرف اخبار ودلالات الماضي سنجد ان بعض منها هي غير صحيحة وتحتاج الى سند في النقل، كما هي المصطلحات في علم الحديث هو علم يُعرف به حال السّند والمتن من حيث القبول والرد، أنواعه الحديث الصحيح، الحديث الحسن، لحديث الضعيف، ان الفحص والتدقيق في الاخبار المنقولة في كتب التاريخ تحتاج الى معرفة اي قسم من الانواع هي الحسنة او الضعيفة او الصحيحة..
فهناك قصص واحاديث نقلها رواة التاريخ بسند ضعيف وتناولها اهل العامة في كتبهم كتلك الشبهات والاقوال على الامام الحسن المجتبى سلام الله عليه، والاتهامات التي وجهت له من قبل ضعفاء النفوس، فقط من اجل تبييض تاريخهم، وتزييف الحقيقة وان كانت شمس الامام الحسن لا تحجبها الغيوم والعلوم، فعندما تطرح شبهة صلح الامام الحسن عليه السلام ترى الافواه تتسارع في قول الخبيث متجاهلين عظمة هذا الموقف، فلو قرأ التاريخ لعرف ان الامام لم يكن بحاجة الى الصلح، ولكن حتى يبقى ذكر ال محمد في الوجود كما سنعرض عليك ايها القارئ تفاصيل الصلح برواية صحيحة السند .
مراحل حكم الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
قد عاش الامام الحسن مع جده رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ما يزيد عن سبع سنوات، ومع ابيه الامام علي طيلة فترة حياته وامامته البالغة من العمر ثلاثين سنة، تولّى الإمام الحسن (عليه السلام) منصب الإمامة والقيادة بعد استشهاد أبيه المرتضى (عليه السلام) في الواحد والعشرين من رمضان "سنة 40 هجرية" وهو في السابعة والثلاثين من عمره المبارك، عرف عنه حسن الخلق والكرم والحلم، شارك في ادارة دولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فعاصر أبي بكر وعمر وعثمان، واستمر بعد أبيه يحمل الامامة على عاتقه كإمام معصوم مفترض الطاعة يحقق اهداف الرسالة الإسلامية الكبرى، ويسير على نهج ابيه وجدة في ادارة الحكم.
الامام الحسن بين الصلح والثورة
في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) انه قال "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، ان رسالة الامام الحسن والحسين هي رسالة واحدة على اختلاف الاداء فمنهم من قام بثورة ومنهم من اسس لها، ولكن أول من اسس لها هو الإمام الحسن (عليه السلام) بالإعداد الكامل وتهيئة الأرضية اللازمة، وأختيار الوقت لثورة الامام الحسين، فالحسن سلام الله عليه بثورته المشهورة بين صلح الامام مع معاوية اراد ان يكشف افعال معاوية الشنعة، واختبار القوم، فمن خلال حكومة الامام الحسن كان الامتحان الإلهي والتكليف الرباني الذي قام به الإمام في وقته كان صعباً جداً.
حيث لم يبق أمام الإمام وقتها غير طريقين لا ثالث لهما، فإمّا القتال والتّضحية بأولئك الأوفياء المخلصين، وإمّا قبول الصلح، والصبر على الألم، واختار (عليه السلام). فهذا ملخص ما حدث:
1- خيانة قائد الجيش عبيد الله بن العباس.
2- خيانة زعماء القبائل في الكوفة.
_3 ضعف جيش الإمام والتخلف عنه خوفا من معاوية.
4- الاغتيالات التي تعرض لها الإمام عليه السلام في الكوفة.
أقبل عبد الله بن سامر الذي أرسله معاوية إلى الإمام الحسن عليه السلام حاملاً تلك الورقة البيضاء المذيّلة بالإمضاء وإعلان القبول بكل شرط يشترطه الإمام عليه السلام وتمّ الاتفاق. وأهم ما جاء فيها:
1- ان لا يعيّن وليّاً لعهده، فليس ذلك من حقّه، وانما من حق الامام الحسن ومن بعده اخيه الحسين.
2- وأن يدع الشيعة وشأنهم فلا يتعرض لهم بقتلٍ أو أذيّةٍ.
3- وأن يمنع أعوانه من شتم أمير المؤمنين (ع).
4- أن يضمن نفقة أولاد الشهداء من أصحاب الإمام علي عليه السلام.
5- ترك سبّ الإمام علي عليه السلام والعدول عن القنوت عليه في الصلاة.
تمّ الاتّفاق والتوقيع عليها، وتوقّف القتال، وعاد الإمام وأهله وأصحابه إلى الكوفة، احتجّ الكثيرون على قبول الإمام بالصّلح، وهو أنّ معارضتهم للإمام هي في حكم معارضتهم للقرآن الكريم الذي يعرّفنا بعصمة أهل البيت ( عليهم السلام).
قبل الإمام الصّلح بعد أن أخذ من معاوية عهداً اعترف فيه هذا بكثير من الحقائق التي كانت سبباً في وعي الناس وإدراكهم، وهذا ما كان يرمي إليه الحسن (ع)، وقد تعهّد معاوية.
"بعد أن تم صلح الإمام الحسن ومعاوية، بدأ الجاهلون يذمّونه بمختلف العبارات، وبعضهم كان يسلّم عليه بـ "مذلّ المؤمنين"، ويقولون له إنّك بصلحك هذا قد أذللت المؤمنين المتحمّسين لقتال معاوية واستسلمت لمعاوية، وقد قام الإمام الحسن عليه السلام في مقابل هذه الاعتراضات والملامات بمخاطبتهم بجملة لعلّها هي الأبلغ في كلّ خطبته: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾. وهي جملةٌ قرآنية فكأنّه يريد أن يقول قد يكون ما جرى فتنة لكم وامتحاناً أو أنّه متاع محدود لمعاوية."
توجّه معاوية بعد الصلح، معقل أمير المؤمنين وأصحابه، وهناك وقف على منبر مسجدها الكبير، يملأه الغرور والخبث، وبدأ يتناول أصحاب عليّ (ع) بكلامٍ غير لائق، فغدر بهم ونكر كلامه، فالذّين أقدموا على خيانة الإمام (ع) لم يظفروا بكلام معاوية، توجّه الإمام وأهله بعد هذه الأحداث نحو يثرب، حيث استقرّوا هناك، وتسلّم بنو أميّة حكم الكوفة، وفي مكان عليّ وعلى منبره حلّ زياد ابن أبيه ومن بعده ابنه واضطرّ أولئك الذين بايعوا معاوية، ورفضوا قبول حكم العدل والتقوى من ابنه بعده، اضطرّوا ان يسلموا رقابهم تحت سيف معاوية، وندموا على ما قدّمته أيديهم، لكنّ الندّم لا ينفع.
وحين أدرك معاوية اقتراب أجله، خشي أن تنتقل الخلافة بعده إلى الحسن، فتضيع جهوده التي أفنى عمره من اجل الوصول الى المنصب، ويعود أهل البيت إلى حقهم، فعزم على دسّ السمّ للإمام الحسن (ع)، ونفّذ ما عزم عليه، وقضى على الإمام مسموماً بيد زوجته، ودست السُمّ في اللبن؛ حتى طالبت معاوية بالوفاء وتزويجها بيزيد، فكان رد معاوية: "إني أخاف على ولدي ان تقتليه كما قتلتِ سيد شباب اهل الجنة واذا كنت لم تبالِ بقتل ابن بنت رسول الله فهل تبالين بقتل ولدي؟!" أو "نحن نحب حياة يزيد، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه!".
سُقي الإمام الحسن السُمّ، وسار في عروقه "لقد حَاقَتْ شربته، وبلغ أمنيته والله لا وَفَى لها بما وَعَدَ، ولا صدق فيما قال. بعد أن ورد بريد مروان إلى معاوية بتنفيذ الخطة أنه أي معاوية كان بالخضراء، فكبر، وكبر معه أهل الخضراء، ثم كبر اهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف زوجة معاوية من كوة المنزل وسألته: سرك اللّه يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي بلغك فسررت به؟، فقال: موت الحسن بن علي، فقالت: انا للّه وانا اليه راجعون، ثم بكت وقالت: مات سيد المسلمين، وابن بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم......
وثقل حال الإمام (عليه السلام) واشتدّ به الوجع فأخذ يعاني آلام الاحتضار، فعلم أنّه لم يبق من حياته الغالية إلاّ بضع دقائق فالتفت إلى أهله قائلاً:
"أخرجوني إلى صحن الدار أنظر في ملكوت السماء".
فحملوه إلى صحن الدار، فلمّا استقرّ به رفع رأسه إلى السماء وأخذ يناجي ربّة ويتضرع إليه قائلاً:
" اللّهم إنّي احتسب عندك نفسي، فإنّها أعزّ الأنفس عليَّ لم أصب بمثلها، اللّهم آنس صرعتي، وآنس في القبر وحدتي".
ثم حضر في ذهنه غدر معاوية به، ونكثه للعهود، واغتياله إيّاه فقال: "لقد حاقت شربته، والله ما وفى بما وعد، ولا صدق فيما قال".
وأخذ يتلو آيات الذكر الحكيم ويبتهل إلى الله ويناجيه حتى فاضت نفسه الزكية إلى جنّة المأوى، وسمت إلى الرفيق الأعلى، تلك النفس الكريمة التي لم يخلق لها نظير فيما مضى من سالف الزمن وما هو آت حلماً وسخاءً وعلماً وعطفاً وحناناً وبرّاً على الناس جميعاً.
لقد مات حليم المسلمين، وسيّد شباب أهل الجنّة، وريحانة الرسول وقرّة عينه، فأظلمت الدنيا لفقده، وأشرقت الآخرة بقدومه.
وارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميّين، وعلا الصراخ والعويل من بيوت يثرب، وهرع أبو هريرة وهو باكي العين مذهول اللبّ إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ينادي بأعلى صوته: "يا أيّها الناس! مات اليوم حبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فابكوا".
وصدعت كلماته القلوب، وتركت الأسى يحزّ في النفوس، وهرع من في يثرب نحو ثوي الإمام وهم ما بين واجم وصائح ومشدوه ونائح قد نخب الحزن قلوبهم على فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذاً لهم وملجأً ومفزعاً إن نزلت بهم كارثة أو حلّت بهم مصيبة.
تجهيز الإمام وتشييعه:
وأخذ سيد الشهداء في تجهيز أخيه، وقد أعانه على ذلك عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن جعفر وعلي بن عبد الله بن عباس وأخواه محمد بن الحنفية وأبو الفضل العباس، فغسّله وكفّنه وحنّطه وهو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون، وبعد الفراغ من تجهيزه; أمر (عليه السلام) بحمل الجثمان المقدّس إلى مسجد الرسول لأجل الصلاة عليه.
وكان تشييع الإمام تشييعاً حافلاً لم تشهد نظيره عاصمة الرسول، فقد بعث الهاشميّون إلى العوالي والقرى المحيطة بيثرب من يعلمهم بموت الإمام، فنزحوا جميعاً إلى يثرب ليفوزوا بتشييع الجثمان العظيم وقد حدّث ثعلبة ابن مالك عن كثرة المشيعين فقال: "شهدت الحسن يوم مات، ودفن في البقيع، ولو طرحت فيه إبرة لما وقعت إلاّ على رأس إنسان". وقد بلغ من ضخامة التشييع أنّ البقيع ما كان يسع أحداً من كثرة الناس.
دفن الإمام (عليه السلام) وفتنة عائشة:
ولم يشكَّ مروان ومن معه من بني أمية أنّهم سَيَدْفُنونَه عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتجمَّعوا لذلك ولبسوا السلاح، فلمّا توجّه به الحسين (عليه السلام) إلى قبر جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليجدّد به عهداً; أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب، وجعل مروان يقول: يا رُبَّ هيجا هي خير مِن دَعَة، أَيُدْفَنُ عثمانُ في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ؟! لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.
وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أمية فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له:
ارجع يا مروان من حيث جئت فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكنّا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته ثم نردّه إلى جدّته فاطمة بنت أسد فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان أوصى بدفنه مع النبي (صلى الله عليه وآله) لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك، لكنّه (عليه السلام) كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً، كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه.
ثم أقبل على عائشة وقال لها: وا سوأتاه! يوماً على بغل ويوماً على جمل، تريدين أن تطفِئي نور الله وتقاتلي أولياء الله، ارجعي فقد كُفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبين والله منتصر لأهل البيت ولو بعد حين.
وقال الحسين (عليه السلام): "والله لولا عهد الحسن بحقن الدماء وأن لا أُريق في أمره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا".
ومضوا بالحسن فدفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (رضي الله عنها).
ووقف الإمام الحسين (عليه السلام) على حافة القبر، وأخذ يؤبّن أخاه قائلاً: "رحمك الله يا أبا محمد، إن كنت لتباصر الحقّ مظانّه، وتؤثر الله عند التداحض في مواطن التقية بحسن الروية، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف، نقية الأسرة، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة عليك، ولا غرو فأنت ابن سلالة النبوّة ورضيع لبان الحكمة، فإلى رَوْح ورَيْحان، وجنّة ونعيم، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه، ووهب لنا ولكم حسن الأسى عنه". (1)
ولم يسلم جثمانه الشريف من حقدهم رموه بسهام ومنعوا ان يدفن بجوار جده (صلى الله عليه واله وسلم) وتم تشييعه في البقيع الفرقد.
اضافةتعليق
التعليقات