سعت البشرية عبر تاريخها الطويل الى إيجاد نظام يكفل لها الوحدة والعيش ضمن علاقات تسودها الوئام والتآلف في جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فظهرت حركات اجتماعية قوية تسعى للتغير وتنبذ الطائفية وترفع أسباب الفرقة والتشتت وتجنب ويلات الصراع السياسي التي لا يهدف الى شيء سوى تهديد الكيانات وتمزيق وحدتها.
فبات العراق يعيش سلسلة من الصراعات اللامتناهية امتدت من سنة ٢٠٠٣ الى يومنا هذا، وهذه الصراعات بلا شك لم تكن وليدة الصدفة لكنها ولدت اغلبها من رحم الظلم الذي خيم على الشعب في تلك الفترة القاتمة من حياة البلد. فما نعيشه اليوم ليس الاّ انعكاس لذلك الماضي الأسود الذي رافق حكم الطاغية صدام واتباعه.
والكثير يعتب على سوء حال العراق من الناحية الأمنية والسياسية وحتى الاجتماعية والاقتصادية، وغافل بأن كل الظروف الصعبة والحروب الداخلية التي شهدناها لم تكن الاّ شرارة من النار التي خلفها صدام، فعلى الرغم من انتهاء عصره الأسود الاّ ان مخلفاته الفكرية لا زالت تستوطن دواخل البعض وتنخر أفكار الناس لتبني منهم ألف صدام وصدام يحاول تمزيق إرادة البلد وتخييم الظلم على الشعب مجدداً.
فأولى الصراعات التي شهدها الوطن هي الصراعات الطائفية التي كانت تبث الهواء في رئة العنصرية حتى تشتت الشعب وتشتت قواه، لأن قوة الشعب في وحدته، وهكذا تشتت الشعب و تشتت الوطن وخرت قواه وتمكن منه اعداءه.
فأخذت المشاكل تأخذ مجراها بين المذاهب والطوائف حتى اشتعلت النيران بين العراقيين وأعلنت الحرب الداخلية بين اوساطها، واستمرت اياماً طويلة تنزف عاصمتنا الحبيبة من جروح ساكنيها، فقد كان الهم ثقيلاً عليها وعلى ابناءها.
كان وتر الطائفية وتر حساس جداً، وللأسف تمكن العدو من العزف عليه بكل خبث، ولكن الجموع الغيورة وحماة الوطن استطاعوا ان يطفئوا نيران الطائفية بدمائهم الزكية، وعادت العاصمة بغداد تعزف اغنية الحب من جديد..
وبعد الهجمة الشرسة التي تعرض لها العراق من قبل تنظيم داعش الإرهابي، نستطيع ان نجزم بأن حالة الوحدة التي شهدها الشعب العراقي لم تشاهد لها مثيل في العالم.. فعلى الرغم من الظروف الصعبة التي كان يعيشها العراق من الاضطراب الأمني واستفحال الإرهاب، الاً ان كلمة الشعب التي توحدت لحماية العراق من كل دخيل خائن كانت أعظم مثال للوحدة الوطنية.
فكل التزييف الذي نشاهده حول الوحدة والدعوة اليها، ليست الاّ شعارات مخدرة لم تأخذ منهجها الصحيح على ارض الواقع ولم تطبق بنودها الاّ في الحالات التي كانت تنسجم مع المصالح الشخصية..
وفي كل الحالات تضليل الوحدة الوطنية لا يعني عدم وجودها، او اظهارها بصورتها غير اللائقة ولكن استغلال هذا المصطلح لم يكن الاّ تخطيط خبيث حتى يسهل من عملية التحكم بالشعب حسب الأهواء الدنيئة، فالماء حتى وان فسر على انه أخضر اللون لن يجعل التفسير منه أخضراً!، ولكن مع بالغ الأسف أصبحت جميع الأفعال المشوبة تترجم على وفق الوحدة الوطنية ليكون الشعب حجر نرد يتحكم به أصحاب المصالح والمنافقون والعملاء، ليخيم عليهم الظلم تحت غطاء ابيض.
ولما كان هذا الصراع هو هاجس العدو حتى يقع البلد فريسة الصراعات الطائفية وويلات التفكك والضياع والتباعد واستغلال هذا التشتيت الوطني لمصالح خبيثة يُستطاع من خلاله استثمار الموارد واسقاط الدولة وجعلها تحت السيطرة..
ويذكر الدكتور عبد الجبار احمد عبد الله: "إن وجود وحدة وطنية قوية ستدفع نحو تعزيز دور الديمقراطية، لأنها (الديمقراطية) لا تستطيع أن تستمر في ظل وحدة وطنية ممزقة، وفي الوقت ذاته فإن الوحدة الوطنية الحقيقية هنا تلك التي يستشعرها المحكومون في المركز والأقاليم البعيدة، وبأنها تتوافق مع خصوصيتهم ومصالحهم وليست ضدها أو الغاء لها.
وكذا الحال فيما يخص الديمقراطية الحقيقية التي لا تعنى وجود هياكل ديكورية من دساتير وأحزاب وسلطات تشريعية، بل يكون هناك توافق وتطابق بين ما يحمله المواطن من وجهات نظر وانعكاسها في سلوكه اليومي ولا سيما ما يتعلق بمواقفه من السلطة كممارسة وصنع تنفيذات.
وبناءً على ذلك فأن الوحدة الوطنية ليست وجود قوات عسكرية للحكومة المركزية في منطقة ما، تمنع صوتاً أو تقمع حركة، لأن الوحدة الوطنية الحقيقية لا تبنى من خلال فوهات البنادق إذا ما دخلت مجالاً خارج حدود استخداماتها في الدفاع عن الوطن والأرض، فإنها ستكون مخربة لاشكال كثيرة ومنها الوحدة الوطنية نفسها، وكذلك الديمقراطية، فهي ليست الديمقراطية التشكيلية التي يلجأ إليها نظام سياسي ليس رغبة في تحقيقها، بل تخفيف لضغط ما ليس الاّ، وهي ستعمل على تخريب وتشويه المعنى الحقيقي للديمقراطية، وفي كلتا الحالتين فان كلاً من الوحدة الوطنية غير الحقيقيتين ستعملان ضد وحدة المواطن والوطن وحريتهما".
وتبقى الوحدة الوطنية بمثابة الخيط الذي يربط كيانات المجتمع مع بعضهم البعض، لأن وحدة أبناء الشعب الواحد ووقوفهم جنباً إلى جنب بعضهم، يمنح الدولة قّوة كبيرة تمكنه من صد أي عدوان خارجي أو داخلي متطرف يحاول تمزيق كيان الوطن، لأن في كل الأحوال الشعب المتفرق يكون صيداً سهلاً لذوي النفسيات الدنيئة، فلا يستطيع الفرد الواحد أن يقف في وجه جماعة ولكن من شأن مجموعة أن تقف أمام المجموعات وتخلق صداً قوي لمواجهة القوة وردها.
وستبث الوحدة روح الجماعة والعمل المشترك بين أبناء الشعب الواحد وستخلق جواً حميمياً كبيراُ بين طوائفه على الرغم من الاختلاف العرقي والقومي ويسود الجو وداً وطمأنينةً.. وستقل نسبة المشاكل الداخليّة الاجتماعيّة التي تعاني منها المجتمعات المتفرّقة، والتي تعود بالضرر وتلحق أذىً كبيراً بالمصلحة العامّة، وسيلتهي المواطنون بالتطور والتقدم الذي سيعكس ايجاباً على حال البلد وسيكون سبباً مباشراً في تقدمه وازدهاره.
ولتعزيز الوحدة الوطنية بين نفوس الشعب، نحتاج الى قادة حقيقين يمثلون الوحدة بصورتها الصحيحة ويعملون على أسسها القويمة وليس على أساس الأهداف الخاصة والمصالح الفردية، فلو تخصر المفهوم على التفرد ستضيع أهداف الوحدة وسيأخذ على أثره موقفاً تحزيباً وبعيد كل البعد عن المفهوم النظيف الذي تهدف به الوحدة الوطنية.
فالخطوة الاولى لتعزيز الوحدة هي بث المودة بين أطياف الشعب الواحد، وتربية الجيل على تقبل الآخر مهما كان لونه ودينه وجنسه، ونبذ الطائفية ومحاربتها بكل الطرق المتمكنة، والقضاء على المفاهيم التي تبث الفرقة والفتنة بين الشعب.
فالوحدة الوطنية في هذه الحالة ستساهم في النهوض الشامل بكافة قطاعات الدولة الحكومية وكذلك القطاعات الخاصة، وبالتالي سيتمهد الطريق نحو مستقبل مزدهر لكافة فئات المجتمع، وعلى أثره ستأخذ الأقليات حقوقها بالكامل، لأن الوحدة الوطنيّة تولد لدى الشخص شعوراً بالانتماء نحو وطنه وأبناء شعبه، وبالتالي تدفعه لأن يخلص في عمله ويطوّر نفسه وبالتالي ينهض بدولته وشعبه بعيداً عن الانتماءات الدينية والتوجهات الخاصة.
اضافةتعليق
التعليقات