كان الكون يقف في صفي أمام مرآتي، تحت ضوءٍ أصفرَ خافتٍ تتخلله رائحة طلاء الأظافر الحادّة التي تشعرني بالأناقة. كنتُ أحارب بكل ما أُوتيتُ من قوة، المبرد بيدي – ذلك الخائن الصغير – كان آخر أملي في صنع الكمال. "هذه ستكون ليلتكِ، حتمًا أنتِ أجمل الحضور"، همستُ لظفري، وهو يلمع تحت الضوء كقطعةٍ من البلور.
ثم... طَقّ!
صوتٌ جافٌّ قصير، كرصاصةٍ في فيلمٍ صامت. نظرتُ إلى إصبعي المرتعش، وإذا بالجريمة البشعة مكتملة أمام عيني: ظفري، ذلك الحصن المنيع الذي استثمرتُ فيه أسابيعَ من العناية، قد انهار عند الحافة، مخلفًا وراءه حافةً خشنة كجرحٍ غائر. إذًا، انهارت أناقتي.
"لا... لا... هذا غير ممكن"، خرجت الكلمات من حلقي مكسورةً كحافة ظفري. اليوم الذي انتظرته منذ أشهر، اليوم الذي خططتُ لكل ثانيةٍ فيه كقائدٍ يستعد للمعركة الفاصلة، دمّره مليمتران من الخيانة. شعرتُ كأن الأرض تدورُ عكس اتجاهها. الزفاف... كيف سأذهبُ إلى زفافِ أعزّ صديقاتي وأنا هكذا؟ كيف سأُباركُ لها وهي ترى يدي ناقصتين؟
أغلقتُ عيني ورأيتُ كل الأحلام تتحطم:
لن أستطيعَ الإمساكَ بكأس العصير بينما أوثّق اللحظات.
لن تلمعَ يداي في الصور.
لن... أوه يا إلهي، لن أستطيع حتى الإشارة بثقة بيدي أثناء التقاط "ستوري" للذكرى في الزفاف!
الماء في عيني كان يغمرُ رؤيتي، لكني رأيتُ الحقيقة بوضوح: لقد خسرتُ المعركة قبل أن تبدأ. ربما عليّ الاعتذار عن الحضور، نعم، هذا هو الحل الوحيد. سأقولُ إنني مريضة، سأقولُ إن سيارة صدمتني، أيّ شيءٍ أفضل من الحقيقة المروعة: "انظري، ظفري انكسر وسأموت من الخجل!"
هل أبدو مجنونة وقد بالغتُ بشعوري وكأن الأسيد قد انسكب على وجهي؟
ربما. ولكن أليس هذا بالضبط ما نفعله أغلبنا طوال الوقت؟ أليس هذا هو العصرُ الذي صنعناه؟ عصرُ التفاهاتِ المُقدسة؟
المبالغة: عدوى العصر الحديث
في لحظة انكسار ظفري، تحولتُ إلى بطلة تراجيدية في مسرحيتي الخاصة. لكن المفارقة هي أن أغلبنا يلعب هذا الدور يوميًّا. نحن نُضخّم التفاهات حتى تصبح "أزمات". فإن انقطع النت لدقيقتين أصبحت هذه نهاية التواصل البشري، وإن نسيتَ شاحن هاتفك "كيف سأعيش الآن؟"، والأتعس من ذلك حين يتحول المشهد من الأشياء المادية ليشمل العلاقات البشرية.
فالأم المتعثرة في كل حفل تخرّج، لا بد أن تتعثر بعباءتها، ليهرع الابن "البطل" لإنقاذها وكأن السعادة لا تكتمل إلا بدراما تشبه مسلسلات الظهيرة. والزوج الذي يُقلد الأفلام: يُقبّل زوجته أمام الجميع وكأنه في مشهد من "نوتينغ هيل"، بينما هي تُحاول إبعاده خجلًا... لا يكتمل الحفل بدونه. ومن حفلات التخرج إلى صخب الزفاف، فإن لم يرقص العريس "سلو" أصبح قديمَ العقلية، لا يعرف للرومانسية معنى، ومن الممكن أن يفشل الزفاف دون هذه الرقصة.
وبعد اكتمال تلك المشاهد، تحتضنها صفحات التواصل الاجتماعي، فتنطلق "الهاشتاغات" التافهة، وتصل لدرجة تحديد "إن لم يفعل هكذا، لا تتزوجيه!"، فهل أصبح الزواج يُحدّد بتلك التفاهات؟ ومن ثم تتصدر الصفحات اللغة الهجينة "يا حبيبي آي لاف يو"، فنتساءل: لماذا نستعير كلماتٍ أجنبية لنقول "أحبك"؟ هل صارت مشاعرنا أيضًا مستوردةً ومعلّبة؟
مما يشير إلى أننا نعيش في زمن يُكافئ الدراما، فكلما زادت مبالغتك، زاد تفاعل الناس معك.
السوشيال ميديا: مصنع المبالغات
لو نشرتُ صورة ظفري المنكسر مع تعليق درامي مثل: "وداعًا أيها العالم، لن أستطيع العيش بعد اليوم"، سأحصل على موجة من التعليقات: "أحضني"، "أنا معكِ"، "هذا مؤلم جدًّا"، بينما الحقيقة هي أن الأمر لا يستحق كل هذا الاهتمام. لكن السؤال هنا: لماذا نبالغ؟
ببساطة لأنه يمنحنا شعورًا بالأهمية. فعندما نُضخّم مشاكلنا، نشعر بأن ما نمرّ به استثنائي، وأننا ضحايا ظروف قاسية. لكن الحقيقة هي أن الحياة مليئة بالمشاكل الحقيقية، وانكسار ظفرٍ ليس واحدًا منها. ففي زمن التدفق السريع للمعلومات، نبالغ في مشاعرنا كي نترك أثرًا، لكن الأثر الحقيقي لا يصنعه البكاء المصطنع، بل الذكريات الصادقة.
كيف نتعافى من إدمان المبالغة؟
يمكنك أن تسأل نفسك: هل هذا يستحق كل هذا الهلع؟
فقبل أن تُعلن حالة الطوارئ، تذكّر أن 98% من كوارثنا اليومية ليست كوارث حقيقية، وتذكّر أن الكمال غير موجود. فمثلًا، لو لم ينكسر ظفري، لكان شعري قد انتفش، أو لانسكب العصير على فستاني. الحياة مليئة بالمفاجآت غير الكاملة، لذلك لنتوقف عن استنزاف المشاعر.
فكلما زادت المبالغة، قلّت قيمتها، ويوماً ما سنصبح غير قادرين على تمييز الصدق من التمثيل، ونقع في فخ الاغتراب العاطفي، فترى الأجيال القادمة الدموع كـ"إيموجي" يُضاف للصورة، لا كتعبيرٍ عن إنسان يشعر حقًا. والناس يبكون لأن الكاميرا تُسجل، لا لأنهم يشعرون حقًا، ويضحكون للسبب ذاته، لا لأنهم سعداء، بل لأن الهاشتاغ يتطلب ذلك.
أما الآن، فلربما حان الوقت لنعود إلى أنفسنا، أن نعيش اللحظة كما نريدها، لا كما يريدها الآخرون. ففي النهاية، الدموع الحقيقية لا تحتاج إلى مكياج، والفرح الصادق لا يحتاج إلى إخراج. فلماذا لا نكسر القالب، ونبدأ بالاحتفال بحياتنا ونُنهي الدراما؟
ولنَعش الواقع، ففي الحقيقة، بعد كل صراخي ودموعي، أدركتُ أن لا أحد لاحظ ظفري المنكسر في الزفاف. نعم، لا أحد! وكل هذا البكاء والقلق كان من أجل لا شيء.
هكذا هي حياتنا... نُضيع الوقت والطاقة في مبالغاتٍ لا معنى لها، بينما العالم من حولنا لا يهتم إلا لثوانٍ قبل أن ينتقل إلى الدراما التالية.
اضافةتعليق
التعليقات