ما إن يُقرر الإنسان السير في طريق الإيمان، حتى يتوالى عليه وخز الأشواك، لكن ليست لتدميه بل لتنفذ إلى داخلهِ، لتَحقن في وجودهِ النور، وكلما ثَبُت وواصل كلما أصبح كل وجوده نوري، وفي الختامِ هو يلتحق بقافلةِ أهل النور من المؤمنين، ومن مصاديق الأشواك "الافتتان"، كما قال تعالى: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ](١).
وإدراك هذه الحقيقة هو ما يَجعل مجاهدة ميول النفس ورغباتها لتكون منضبطة وفق ما أراد لها خالقها(عز وجل) ليس أمر عسير وثقيل بل مَطلوباً ومُيسراً، كما قال تعالى: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ](٢)، فمتى ما كان مُنطلق المرأة في المجاهدةِ التي تَبذِلُها هي لأجلِ الاقترابِ من مُنورِ النورِ؛ فإنَه (سبحانه) سيَهديها لمصادرِ النورِ التي تُرشدها وتُؤنسها كيّ لا تَستوحش الطريق، ولتُبصرها الخاتمة الطيبة فلا تتراجع في المسير.
وواحدة من ميادين جهاد المرأة المؤمنة هي اختيار الشريك، بل هي من أهم الخيارات/الاختبارات التي يُرسم وفقها مسار حياتها في الدارين، وهنا من المهم الالتفات إلى إن ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قول: "جهاد المرأة حُسن تَبعلها"(٣)، فيه إشارة إلى إن حُسن الاختيار هو ملازم للتفكير بحَسن التَبعل، فمن تَحسن اختيار شريك حياتها، سيَسهُل عليها أن تكون زوجة حَسنة/مُحسنة في معاشرتها له، وحتى بَعد أن تُصبح أُماً، أمومتها لن توجد خَللاً في حُسن تَبعلها، بل ستُضفي جمالاً وإحساناً وتكاملاً جديداً على حياتهما المشتركة.
أما السبيل المرشد والهادي فهو الصديقة (عليها السلام) كيف لا! وهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، إذ إن سيرتها(عليها السلام) لا تخلو من الركائز الأساسية التي لا يُمكن أن تتنازل عنها المرأة الفاطمية لتخوض جهادها في هذا الميدان بفلاحٍ، والتي منها:
الركيزة الأولى: المرأة الفاطمية واستقلالية القرار
إذ ورد عن الصديقة (عليها السلام)، أنها قالت: "رضيت بالله رباً، وبك يا أبتاه نبياً، وبابن عمي بعلاً وولياً"(٤)، هذا التعبير يوحي لنا باستقلالية الشخصية الفاطمية في اختيارها ورضاها سواء بعقيدتها أو باختيارها لشريك حياتها، مع إنها بنت سيد الأنبياء، وأعلم الخلق وأحكمهم وأعدلهم؛ فلو أَعطَتْ قرارها في الاختيار لأبيها (صلوات الله عليهما) لم يَكن إلا ليُصِب فيما سَيَختار لها.
نعم تسمع المشورة وإذا كانت مناسبة تأخذ بها، لكن في النهايةِ هي تكون صاحبة القرار، والمسؤولة الأولى عما ستختار، وهذا ما نَلمسه من طبيعة الحوار الذي حصل بينها وبين النبي (صلى الله عليهما) لما أتى الأمير لخطبتها، بقوله (صلى الله عليه وآله):" إن علي بن أبي طالب من قد عَرفتِ قرابته وفضله وإسلامه، وإني قد سألت ربي أن يُزوجكِ خير خلقه وأحبهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئا فما ترين؟ فسكتت ولم تول وجهها ولم ير فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) كراهة؛ فقام وهو يقول: الله أكبر سكوتها إقرارها"(٥)، إذ نلحظ إنه (صلى الله عليه وآله) أعطى رأيه ثم أوكل القرار إليها(عليها السلام) بقوله [فما ترين؟].
بالنتيجة السيدة كقدوة لكل امرأة تُعطينا هذه الركيزة [بأن تكون المرأة الفاطمية ذات قرار في كل ما يَخص مصيرها، لا أن تكون مُسيرة، مُستضعفة، أو متهاونة في ما يَخص مستقبلها وخاصة فيما يرتبط باختيار شريك حياتها].
الركيزة الثانية: المرأة الفاطمية واختيار الكفؤ لها
بما إن الزواج بكل جزئياته هو أعظم أنواع الجهاد النسوي، فإن واحدة من جزئياته أن تنجح المرأة في مجاهدة رغباتها التي لا تتوافق مع معنى [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا]، والصديقة الزهراء(عليها السلام) خير مثال وقدوة في ذلك، فقد تقدم لها الكثير ممن هم الكفؤ - وفق نظرة الأعراف الاجتماعية، ممن كانوا ذوي حسب ونسب وجاه-ولكنها لم تَختر إلا من كان اختياره حَسنا عند مولاها الباري، والذي سيكون شريكها في مسيرتها الإيمانية.
فالمجاهدة هنا أن تكون ضوابط الاختيار وفق ما يريد الله تعالى، لا النفس أو المجتمع، وهذا جهاد صعب، أما الصبر حتى مجيئ الكفؤ فهو الجهاد الأصعب مع كل الضغوطات والصعوبات التي قد تواجهها المرأة المؤمنة لكونها تريد أن تكون عند ربها من المُحسنين، وممن اقتدين بسيدة نساء العالمين.
فما يَجعلها صابره، لا تتنازل عن المقاييس الإلهية للشريك الكفؤ هو يقينها أن الرب المُعطي واحد؛ فكما أرسل الله تعالى للصديقة من هو كفؤ لها، سيرسل لكل فاطمية إن جاهدت وصبرت طلباً لرضاه (سبحانه) من هو كفؤ لها، ومع ما يتناسب مع إيمانها، ويكون أصلح لحالها.
اضافةتعليق
التعليقات