في نفس البشرية سر قد سكن فؤاد رحوم.. يبتغي مرضاة من أحب، بكل ما يملك ..
لعل في يد العافية بعض التضحية لتهب لمن احتضنت عمرا وأنفاسا وقد خبزت قرصا من عجين دمعها ودعاء من بعض ما اشرقت عليه حياتها.. لتشبع جوع ابنها أو بنتها، وجانبها الأيسر، زوجها ولربما كهول أرذل العمر من أمها وأبيها ..
قلب ينبض بالحب والعطاء بلا حدود.. أمي هي الحياة .. هي طاحونة الظروف التي جالت على أوتار حزنها ومشاعرها.. هي مفارقة متميزة، لا تتصف بالخبث ولا برنين السعد المؤقت..
أمي، تلك الشجرة المثمرة التي تهتز عند كل قارعة بكاء، وزلزلة دهاء أصابت قرة عينها..
أمي، كم انت عظيمة ، ثوبك من إدام الثابتين، ويدك سهول خضراء ..
أتذكر يوما، كان تنور الرغد يبعث دخانا أشبه بنسيم اللطافة عند بدء الصباح ..
همك أن لا يتغيب الضمير ولا يتعب ، لإرضاء بيت العطاء .. وقد أعدت يداك شكرا كي لايستغيث البلاء ، ويحرق خبزك في أتون بيت الجمر..
ولحكاية الجار رقيم آخر، (الجار ثم الدار) ..
تترقب عيونهم نهم اللذيذ من ماتصنعه لطائف نفسك الزاهية .. عند الصباح ،، أم وسام جارتنا تطرق باب الجدار وكالمعتاد تنتظر قرصين من الخبز الطازج الحار من تنور أمي ، يوميا،، وتقول :
أم (...) أين هو جميل مآثرك ، وخبزك الرقيق المعطر بزاد العافية ...؟؟؟
عجبا لك يا أمي ،، لم تنسي حتى جارك وقد كان لهم نصيب مما أكتسبوا..
سالتها من أين لك هذا ؟
قالت : من محاسن أمنا الزهراء ، وجمال أخلاقها ، وعفاف نظرها ، وبها اقتدي ومنها أتعلم..
كانت أمي تعتذر ل راحلة الثواب والأجر ، ل قلة زاد اليد ،، وتطلب من جارها أجمل الدعاء..
النفس كفيفة وعفيفة ، ولكن من الله وإحسانه اغداق كثير ، وفضل عميم ..
الطلب على مد بصر ، والصدى يداعب الأقدار لعل الأنعم رهينة الرجاء تقبل على بيت أمي .. لتسد فاقة من يحتاج منها بعض العطاء..
كانت أمي تقول .. بنيتي ، إن رائحة الفقر نسيم طاهر لا يرافقه فكر هجين ..
وإن من لا يملك زهو الحياة ، قد ملك خلد الجنان ..
كانت أمي ، دائما تردد مقولتها : لولا الفقراء لما دخل الأغنياء الجنة )
نعم .. زاهدة أمي حتى في حرفها وقولها .. إلا في عطائها ، فهي أغنى الأغنياء
ذات ظهيرة ، كانت أمي لا تتكلم ،، دقت ساعة التكبير لوقت الصلاة.. توظأت وألتحفت وتعطرت ووقفت على سجادة السعد ، تربتها وتسبيحها يناغج أصابعها أراها ، تستعين ب حروف التسليم والطاعه .. ودمعة صامتة ، تواكب مقلتيها في لحن ثابت ، ويدها السخية مرفوعة للسماء .
حضارة انت يا امي، لبست العفة وتزودت بلطف الاقتداء وحب الأولياء فاطمة الزهراء عليها السلام .
في يوم كانت للطفولة برائتها ،، انتظرت أمي على باب دارنا .. كنت أشعر بالخوف وغربة الدار ..متى أرى أمي ،، اين انت ،، وإذا في برهة .. أرى أمي ، أقدمت وعلى كتفيها (علاگة) زاد الدنيا ، لا انسى يومها كم كانت ممتلئة ،، استغربت في نفسي وقلت :
كيف تحملت هذا الثقل يا أمي ، لماذا لم يساعدك أحد ؟؟؟
في طبيعة الحال ، لم أكن أعلم وبمستوى طفولتي ، أن أمي مثل القلاع ، تتحمل لتسعد أنظار بنيها ، كي ترى ابتسامة بنتها ، وتسر قلب محبيها .. كان الشعور وقتها محفوف بالفرح والحزن معا..
سعادة أمي أن تراني ، وسعادتي بها أن تدوم لي طوال حياتي .. يسامرني الليل أحيانا وانا في ذمة ذكراك اتقلب، واتذكر منك كل الخير وانت منك الشفاء..
دعيني اصارحك أمي ،، عذرا منك إن خذلتك يوما وقد أخذ العنفوان مني صوابي ، وتركت أتراب النفس تغلبني ، وقد تجمد دمعي ، وقتلني عذري..
لا أنسى انك بت جائعة حينها ، كي تشفي غليل فرطي..
انت عالم من الرحمة يا أمي ،، وانا فارزة من عالمك
يعتبرك البعض حقل تجارب ،، ولكنهم أخطأوا ، لأنهم لم يستوعبوا الحب الذي في قلبك ..
كانت أمي ترمم أحزاننا بصبرها الدافئ ، وببصرها الحاذق ، ربما لم نفهمها بوضوح الزمن ،
إلا أن الوقت كفيل بتعليمنا من هي .. لم يكن في ذاكرتها يوما، أن تفقد بابا من أبوابها
تعيش على اللحظة، وتطعم يومها من دقيق الزمن خطوة بخطوة .. تلبس البسيط وتأكل من فاضل ماقدمت.. سعادتها أن لا ننام جياع ، ولا يصيبنا الظمأ ولا تعترينا مخاذل الأدعياء.. أمي ، بيت فيه كل ما نريد ، ولسنا كذلك ..
علمتنا الكلمة القيمة، والأخلاق الطيبة ، لم يكن سهوا منها ابدا ، لم ندرك وقتها ،، أن أمي وإن اقتصت منا في موقف ما فإنما كان لمصلحتنا ،، ولكننا أدركنا ذلك الآن يا أمي.
وأما أخوتي ، كان لهم فيصلا خاصا في قلب أمي ، تنظر لهم نظر المستقبل ، كان الألم يضاجعها خوفا عليهم من عين السلطة الظالمة وسيفه آنذاك ..
أمي تحملت الكثير ، ليكون لأخوتي مأزرا تأتزر به عند الشدائد .. تنظر لهم بعين الصبر، تترقب خطواتهم ، تدعو لهم بسلامة الدارين وأن يجمعهم الله مع قافلة أهل البيت بحسن العاقبة وشكر التسليم..
ولكن ..
كان الابتلاء له خطوة ايضا يسابق أمي في أمنياتها يتلون لها بلون المباغتة ،، عندها حانت ساعة الصدمة لها ..
أمي فقدت أخوتي ، وهم في ريعان شبابهم ، فقدت اعز ما لديها ، ذهبت نعمة الدار ، رحلت الاماني حيث لارجعة ، قتلوا اخوتي !!
أمي ،، غارت شمسها ، وانطفئت إشراقة بسمتها ، لم تفارق ثوبها الأسود ، ولم تنقطع أنتها وهنتها ،، حرفها الدموع ، وسكونها الوجع ، ودوائها كان النظر الدائم إلى قالب صورهم صباحا ومساء ،، آه يا أمي كم انت رائعة ، كم انت عتيدة حين تمسك الفاجعة ..
الويل لك أيها الزمن العتيد ، لم تترك أمي بخير ، سرقت منها فرحها وأمنها ، وكبلتها بفارقة لؤمك
ما أقول عنك يا أمي ، وانت الملاك الذي ألجأ اليه عند شدتي ، ها وقد أصبحت انت في شدة، كيف أجازيك ، وقد قيدني التقصير في حقك ،، كيف لي أن ألم شعث ضياعي بك ،، لا يمكن للزمن أن يعود وقد سرق منا أجمل ما لدينا ..
صدقيني أمي ، كنت أشاركك الدمعة ، واتمتم مع نفسي حروف الاختناق ، كي لا تفزعي ويكتظ الوجع .. كيف اصفك وقد نفذ حبر الحقيقة عن وصف معانيك ، وتجلد قلمي في تقصيره وهو يكتب عنك.. لا أعلم ، هل هو الذهول الذي اودعني بيت النقصان ، أم أني فقرة من فقرات الزمن الذي يذكرك بين طياته بين فترة وأخرى ، لتستطاب به نفسي..
لا تهتمي يا أمي ، فإن سرك وديعة عندي وعندي لا تضيع الودائع ... فإن ذكرت بعض خصائصك .. فلأنك المكنونة التي لا نظير.. وابقى حرف جر لظلك...
نعم كبرت أمي، أصابها الأنين الواجم بالحزن وأخذ منها مأخذا عظيما، أصبح الدواء غذائها، وذكر الماضي حال لسانها المتعب..
كيف لها أن تنسى، وحقا لها وقد أدركت قيمة الأمومة واعطت لنفسها وساما موشوما بالفخر ونبض الرقة وحنانا مستديما .
حتى أدركتها النهاية وطرق باب المنية قلبها، في ذات صباح.. نعينا برحيلها، نعم، لقد جفى الموت أمي، وسرقها، وكانت محطة إفتجاع، رحمك الله يا أمي.. واغفري لي زلتي، وسامحيني، وهنيئا لك مقامك فأنت أم الشهداء..
اضافةتعليق
التعليقات