هل يعد الهدوء موقفاً سلبياً من الوجود، ينطوي على تخدير الذات لمنعها من التفاعل مع ما يحدث في الواقع؟ هل يعدّ، في بعض الحالات، أمراً غير طبيعي، بل ومناهضا للمجتمع؟ أم أن الإحساس بالطمأنينة من أفضل الصفات التي يمكن أن يتمتع بها المرء؟ فيما يلي، خمس خلفيات فكرية حول الهدوء، بدءاً من فلسفة الصفاء، إلى الفن والشعر، التي يمكن أن تشعرنا بالسلام، وكيف نجد "الانسياب" الخاص بنا؟
الصفاء الرواقي
يقول الفيلسوف الرواقي الروماني ماركوس أوريليوس: "حافظ على هدوئك وسكونك بغض النظر عما تحمله لك الحياة". قد يبدو القول أسهل من الفعل، ولكن في الواقع، كان أوريليوس يتمتع بموهبة جعل الحفاظ الهدوء يبدو كأنه سهل التحقيق.
يخصص أوريليوس كتابه الشهير "تأملات"، لوضع "اهتماماتنا اليومية وهواجسنا ضمن منظور أوسع"، بحسب الكاتب جون سيلارز، الأستاذ المحاضر في "رويال هالوي"، جامعة لندن.
يقول سيلارز لبي بي سي كالتشر إن أوريليوس الذي كان أيضاً امبراطور روما، واجه ضغوطاً هائلة، ولكنه "كان يذكر نفسه على الدوام بأن حياته وجيزة مقارنة باتساع الزمن، وأنها صغيرة مقارنة باكتمال الكون".
تماشياً مع موقفه الرواقي من الحياة، كان أوريليوس يذكر نفسه دوماً أنه "الإحباط أو المشاعر السلبية التي قد يشعر بها، ليست في نهاية المطاف إلا نتاجاً لأحكامه وتفسيراته الخاصة للمواقف، وبالتالي، فإن الأمور لا تزال في نطاق سيطرته"، يقول سيلارز.
ولكن لم كلّ هذا التركيز على الهدوء؟ هل من المهم حقاً أن نعثر على السلام؟ بالنسبة للعقلية الرواقية، فإن الهدوء هو كل شيء، فهو قوة. وكما يكتب أوريليوس في "تأملات": "كلما اقترب المرء من عقله الهادئ، كلما اقترب من القوة".
يوضح سيلارز: "يشدّد ماركوس ورفاقه الرواقيون على أن الهدوء ضروري لعيش حياة طيبة وسعيدة، وذلك لأن العقل المشوش والمضطرب، لن يكون قادراً على أخذ قرارات منطقية وعقلانية. فحين يكون الشخص في قبضة مشاعر عنيفة، فإنه لن يكون قادراً على التفكير بشكل صحيح، حرفياً. سيشعر أنه منهك بعنف، وقد يتصرف بانفعال وعنف. لاتخاذ قرارات جيدة، نحتاج إلى إطار ذهني هادئ، لكي نأخذ استراحة قصيرة، ونفكر، عوضاً عن التصرّف بشكل انفعالي وحسب".
بالنسبة للرواقيين، كل ما نحتاج إليه هو أن نفهم بأن الهدوء أمر خاضع لسيطرتنا. مهما كان ما يحدث في العالم، "فإن (تأثيره علينا) يتوقف على أحكامنا وتفسيراتنا للمواقف، وليس المواقف بحد ذاتها"، كما يقول سيلارز.
يضيف أن الفيلسوف إبيكتيتوس صاحب التأثير الأكبر على أوريليوس، كتب: "عندما نشعر بالإحباط أو الغضب أو التعاسة، فإن المسؤولية لا تقع إلا على أنفسنا، وعلى أحكامنا".
تعدّ هذه الفكرة جوهر الفلسفة الرواقية، وبحسب سيلارز، كان "لها تأثير كبير على مؤسسي العلاج السلوكي المعرفي الحديث (CBT) وقد ثبتت فعاليتها من خلال العديد من الدراسات التي أجريت على العلاج السلوكي المعرفي".
فن الطمأنينة
يمكن أن نلاحظ الأمر ذاته في الفنون البصرية، فما يجده متفرج تجربة هادئة وتأملية، قد يكون في عين آخر دراما نفسية شديدة الوطء.
تصف مجلة نيويوركر عمل الفنانة السويدية هيلما أف كيلمت بأنه "حصري لدرجة مخيف"، ويجد صداه في "المزاج الراهن القائم على البحث بلا هوادة.
بالنسبة لمتفرجين آخرين، تبدو تحف فنية مثل "العشرة الكبار، المجموعة الرابعة، رقم 3، شباب 1907"، هادئة في جوهرها داخل عوالمها الأخرى الغامضة.
طورت أف كلينت، الرسامة السويدية، معجمها الخاص للأشكال الملونة بالباستيل، قبل عدة سنوات من فنانين تجريديين آخرين أكثر شهرة.
ستعرض أعمالها في أبريل/ نيسان المقبل، بجانب أعمال بيت مودريان، في صالة "تيت مودرن" في لندن.
عن المعرض، تكتب صالة "تيت" في بيان: "في قلب الرحلتين الفنيتين كانت هناك رغبة مشتركة في فهم القوى الكامنة وراء الحياة على الأرض".
بدأت أف كلينت حياتها المهنية كرسامة للمناظر الطبيعية، ثم بدأت أعمالها بتمثيل الأشكال الطبيعية بطريقة تنحرف نحو التجريد.
وكانت الروحانيات والحكمة الإلهية والفلسفة عناصر محورية في نظرتها للعالم، وتعكس أعمالها الإحساس بوجود شيء أكبر منا - في الواقع كانت تعتقد أنها رسمت لوحاتها بتوجيه من أرواح عليا. وكآخرين قبلها، كانت تعتبر وجودنا مجرد عنصر صغير في مخطط أكبر.
على الرغم من أن رؤيتها كانت تميل إلى الغيبيات، إلا أن اهتمامها بالماورائيات والثيوصوفية كان ينطوي على عملية معقدة، شبه علمية، إن جاز التعبير، ويتمتع بمنطقه الداخلي الخاص.
كانت الرسامة منجذبة من جهة، لكتابات مؤسسة الجمعية الثيوصوفية هيلينا بلافاتسكي، وللأفكار الفلسفية للمتصوف القروسطي المسيحي روزنكروز. أرادت لعملها أن يسهل الوساطة الروحية التي تتجاوز الواقع المادي، وأن يصوّر ما يمكن أن نسميه عالماً وهمياً.
من يمكن أن يعرف ما كان الدافع والمعنى الدقيق في أعمالها الاستثنائية، الحديّة، والغامضة؟ ربما يكون ذلك اللغز والانتماء إلى العالم الآخر، ما يجعل فعل النظر إلى لوحاتها، أو بعضها على الأقل، تجربة عميقة بسكونها.
تتألف قصيدة الهايكو اليابانية التقليدية، من 17 مقطعاً صوتياً في ثلاثة شطور، وتعرف على نطاق واسع بتأثيرها المهدئ على القارئ.
تتبع تركيبة الهايكو عدداً محدداً من المقاطع الصوتية، ويشجع الشاعر على التركيز على صورة أو لحظة واحدة، والتي تمتلك في حدّ ذاتها تأثيراً تأملياً.
استخدام الصور الطبيعية في الهايكو، يحفز بدوره مشاعر الصفاء والسلام. ويسمح إيجاز قصيدة الهايكو وبساطتها للقارئ بالتأمل بالمعنى والصور من دون ارتباك بسبب كثرة الأفكار واللغة.
يعدّ ماتسو باشو من فترة إيدو (1603-1868)، أشهر شعراء الهايكو، وتمت ترجمة أعماله الشعرية الكاملة إلى الانجليزية في كتاب بعنوان "عن الحب والشعير: هايكو باشو".
ولد باشو في إيغا أوينو بالقرب من كيوتو في عام 1644، وبدأ بكتابة الشعر خلال عمله كمرافق لرجل أرستقراطي من منطقته.
تجمع قصائده القصيرة بين فكرة المذهب التأملي زن عن وحدة الخليقة، والكورامي Kurami، وتعني خفة اللمس. وتستحضر كل قصيدة من قصائده مشهدًا من العالم الطبيعي: قفزة ضفدع، قمر صيفي، زهر الكرز، ثلج شتوي، ما يوحي بصغر حياة الإنسان في سياق اتساع الطبيعة.
من قصائده: "بركة قديمة/ ضفدع يقفز/ صوت الماء"، أو "على غصن بلا أوراق/ يحطّ الغراب للراحة/ غروب الخريف".
عاش باشو حياة متنسكة، متجرداً بالكامل من الممتلكات. ويمكن القول إن قصائده كانت نتيجة عين ثاقبة، وعقل تأمّلي ترك بعيداً عن إلهاء "الأشياء"، فصار أكثر وعياً لجمال العالم من حوله، وأقرب إلى حدسه الخاص.
في كتاب بعنوان "زن في الثقافة اليابانية" يكتب دايستز تي سوزكي: "لا يعبّر الهايكو عن أفكار، ولكنه يصدّر أفكاراً تعكس الحدس. هذه الصور ليس تمثيلات مجازية يستخدمها العقل الشهري، بل تشير إلى البديهيات، حتى أنها حدس قائم بذاته". ويقصد أن تأليف الهايكو حدسيّ لدرجة قد تجعله غير واعٍ.
تعدّ قصائد الهايكو والانتباه الذي توليه لتفاصيل الطبيع، جزءاً من ثقافة يابانية أوسع، تقوم على مفهومي "ناغومي" و"إيكيغاي"، وتعنيان "المعنى والتناغم".
تكتب يوكاري ميتسوهاشي في كتاب بعنوان "إيكيغاي: منح كل يوم سعادة ومعنى"، إن قصائد الهايكو تعطي تفسيراً عن سبب وجود كلمة إيكيغاي في اللغة اليابانية".
تقول: "في حياتنا اليومية، سواء كنا نغمر أنفسنا بالطبيعة أو نلتهم الطعام الياباني التقليدي، فإن الاهتمام بالتفاصيل يدفع تركيزنا على ما هو أمامنا مباشرةً، بدلاً من التساؤل عن قوائم المهام التي في رؤوسنا. ذلك ما يسمح لنا بالعثور على المتعة والإيكيغاي في الأشياء اليومية البسيطة".
تطبيق مبادئ الهايكو على مجالات حياتية أخرى، يمكن أن يمنح السكون. يقول فونيو ساسكي في كتابه "وداعاً للأشياء": "لا تحتوي اللوحات التقليدية إلا على أشكال قليلة، وتعطي قيمة للمساحات الفارغة. لوحات الخط اليابانية ترم بالفرشاة بالأبيض والأسود. قصيدة الهايكو هي أقصر نوع شعري في العالم. هذه بعض الأمثل عن الجماليات المينيمالية في الفن والثقافة اليابانيين.
في الكتاب، يقرر ساسكاي، التخلي عن معظم مقتنياته، كما فعل باشو قبل قرون، وذلك لاختبار شعور الهدوء والطمأنينة الناتج عن ذلك. "يمكن أن تكسب أكثر مما تتصوّر عند التخلص من الإفراط: الوقت، والمساحة، والحرية، والطاقة".
البحث عن الانسياب
ينظر البعض إلى الهدوء بارتياب - فهل حالة الهدوء هي في الحقيقة مجرد حالة من السلبية؟ تنازل عن الالتزامات أم استسلام أم أسوأ من ذلك، نوع من العداء الاجتماعي؟
لا يعني الهدوء أنك سلبي أو مخدّر بالضرورة. فعندما ننغمس في فعل نحبه، البستنة، الرسم، الحياكة، الكتابة - ندخل في حالة من الهدوء تشبه الغيبوبة تقريباً، كأننا مفتونين بما نقوم به.
تقول ميتسوهاشي في كتابها حول "الإيكيغاي"، إن غمر أنفسنا بالطبيعة، أو بنشاط يجعلنا نركز على ما هو أمامنا، وتحرير عقولنا من الأشياء الأخرى، يساعدنا في العثور على السلام.
في كتابها الكلاسيكي "طريقة الفنان"، تشجع جوليا كاميرون القارئ على "الالتزام بوقت هادئ". تكتب: "الإبداع يحدث في اللحظة، وفي هذه اللحظة نكون خالدين".
يقول الكاتب Mihaly Csiksezentmihalyi، إن ما يعطينا شعوراً بالهدوء والسلام، ويجعلنا سعداء بأن نكون على قيد الحياة، هو الوصول إلى نوع من الرضا، أو حالة ذهنية تسمّى "الانسياب".
في كتابه "الانسياب: علم نفس السعادة"، يلقي الضوء على فكرة تناولها فلاسفة كثر من قبله - وهي أن الطريق إلى الصفاء لا يكمن في القطيعة الطائش، بل بالتحدّي الواعي. هكذا، يجد كل واحد منا انسيابه بطرق مختلفة، ويعثر عن شعوره الخاص بالسكون". حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات