أدى تفشي وباء كورونا إلى إبعادنا عن أماكن عملنا، وأحدث بالتبعية تغييرات في شخصياتنا. والآن بينما ننغمس من جديد وبسرعة في حياتنا العملية، يمكننا اتخاذ خطوات تساعدنا على العودة إلى الوضع الطبيعي بنجاح.
ربما طُلب منك مؤخرا رئاسة الاجتماع الصباحي لفريق عملك من مقر العمل نفسه لا عن بُعد، وهو ما جعلك تشعر بتوتر ما. ولعل هذا التوتر قد أصابك أيضا، وأنت تراقب عقارب الساعة متقلبا في فراشك خلال الليل، انتظارا لموعد استيقاظك للتوجه إلى عملك، لأداء مهامك من هناك وليس من منزلك كما اعتدت خلال الشهور، التي أعقبت بدء تفشي وباء كورونا.
على أي حال، إذا كان القلق يراودك جراء إحساسك بمشاعر مثل هذه، فلتعلم أنك لست وحدك. فقد أجبر ما حدث خلال الشهور القليلة الماضية بفعل الوباء، الكثيرين على اتباع نمط حياة يتسم بالانعزالية، ويخلو من أي مواعيد محددة أو جداول منتظمة لإنجاز مهام بعينها.
لذلك، قد تشعر بأنك تغيرت كثيرا بسبب فيروس كورونا وتبعاته، كما يمكنك أن تتساءل عن الكيفية التي ستتمكن من خلالها، من التأقلم من جديد مع الحياة العملية، بما تتضمنه من ذهاب يومي لمقر العمل مرة أخرى. لكن الخبر السار هنا، أنك ستنجح في ذلك في نهاية المطاف.
ويمكنك في هذا الشأن، الاستفادة من خصالك الشخصية، مثل الجرأة والطموح والقدرة على التعامل بود مع الآخرين، وأن تعتبر هذه الصفات بمثابة مرادفات للاستراتيجيات التي يمكنك اتباعها للتكيف مع متغيرات الحياة، والتواصل مع المحيطين بك.
وعلى مدار القرن الماضي، رأى خبراء علم النفس، أن هذه الخصال تتبلور في مرحلة مبكرة من حياة المرء، وتظل ثابتة دون تغير، ربما من سن الثلاثين مثلا، كما قال عالم النفس والفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس. لكن غالبية المتخصصين، ينظرون الآن إلى هذا الأمر على نحو مختلف تماما. فهم يرون أن البشر بطبيعتهم، قادرون على التكيف والتأقلم بشكل كبير للغاية، وأن بوسعنا دائما التعلم والتغير.
وينطبق ذلك أيضا على ما نتسم به من صفات، إذ تظهر نتائج مجموعة من الدراسات الجديدة، ومن بينها أبحاث تتبع القائمون عليها المجموعة نفسها من الأشخاص على مدار حياتهم، أن الثبات النسبي لشخصية الإنسان لا يمنع من أنها قابلة للتغير، حتى في مراحل متقدمة من العمر.
ومن شأن ذلك التأثير بشكل كبير على طريقة تفكيرنا، فيما يتعلق بما لحق بشخصية كل منّا من تأثيرات جراء تفشي فيروس كورونا، وكيف يمكننا أن نُعِد أنفسنا على النحو الأمثل للعودة إلى حياتنا الطبيعية، بعد شهور شهدت إجراءات إغلاق.
ولحسن الحظ، بمقدورك الاستفادة هنا، من الطابع المرن الذي تتسم به الشخصية البشرية، لتهيئ نفسك على النحو الأمثل - من الوجهة النفسية - لكي تعود إلى حياتك العملية، على الشاكلة التي كانت عليها، قبل أن يجتاح كورونا العالم.
وبينما تمثل الجينات حجر الأساس لشخصيتنا، بكل ما تتصف به من خصال وصفات وملامح محددة، فإن هذه الشخصية تتأثر بعد ذلك، بعوامل شتى، من بينها الأدوار الاجتماعية التي نلعبها، والعلاقات التي نبلورها مع الآخرين، وكذلك الأحداث التي نمر بها خلال حياتنا.
قد يؤدي بذلك جهدا كبيرا للعمل على تعزيز السمات الانبساطية في شخصيتك، والاتصاف بضمير حي في التعامل مع ما يُناط بك من مهام، إلى تسهيل عودتك إلى حياتك العملية كما كانت عليه قبل الوباء
وبالنسبة للكثيرين، لا يوجد من بين هذه الأحداث، ما يمكن أن يكون ذا طابع عنيف كوباء كورونا، الذي أثر على كل منّا بأشكال متباينة. رغم ذلك، ستكون هناك - بالنسبة للكثيرين منّا - أنماط مشتركة واسعة النطاق من التغييرات، ستشكل تحديات ملموسة، سيتعين علينا التعامل معها، بالتزامن مع تخفيف إجراءات الإغلاق.
فعلى سبيل المثال، إذا كنت قد حُرِمت خلال الفترة الماضية من التواصل بشكل كبير مع الآخرين خاصة وجها لوجه، مثلما حدث لغالبية الناس، وقضيت بفعل الوباء قسطا كبيرا من الوقت بمفردك، فمن المرجح أن تكون قد فقدت كثيرا من السمات الانبساطية في شخصيتك. ولذا ربما تشعر بمرور الوقت، أنك أصبحت أقل نشاطا وقدرة على التواصل الاجتماعي، وهو ما يؤدي إلى أن تتحول التحديات التي كنت تستطيع تجاوزها دون عناء في السابق، إلى عقبات كبيرة.
وقد أظهرت الدراسات، أن الحياة وحيدا لن تقود فقط إلى تقليص السمات الانبساطية، وإنما تؤدي أيضا لحدوث سلسلة من التغييرات النفسية التي قد تفاقم وحدتك، مثل إذكاء شعورك بالخوف من التعرض للرفض أو الإهانة والازدراء من جانب الآخرين.
وبالمثل؛ فإذا كنت قد عانيت من البطالة خلال الوباء، أو أُجْبِرت على التوقف عن العمل أثناء الفترة الماضية لأسابيع أو لشهور، فربما أصبحت تعاني الآن من تراجع مستوى إحساسك بضرورة الاتصاف بضمير حي، في التعامل مع الواجبات التي توكل إليك، أو تشعر بتقلص قدرتك على الالتزام بالانضباط الذاتي، أو التحلي بالطموح.
وقد أظهرت الدراسات أن البطالة تُخلف هذا التأثير، نظرا لأنها تجعل يومك غير محكوم بأي إطار زمني معين، وتجعلك تفتقر للشعور بأنك سُتثاب إذا اجتهدت في عملك والتزمت بمواعيدك فيه كذلك. وقد يتجسد هذا التأثير السلبي للبطالة، في صورة تدني مستوى التحفيز لديك، وانغماسك في نمط حياة أكثر فوضوية.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه معدلات التطعيم في دول عدة، وفي ظل الآمال بأن يتواصل اتخاذ القرارات الخاصة بتخفيف القيود والإجراءات الاحترازية، يتوقع المعلقون الاقتصاديون ألا تقتصر الفترة المقبلة على العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل تفشي الوباء، وإنما يتوقعون أن نلمس انتعاشا قويا، يتضمن دوران عجلة الاقتصاد بسرعة، وتوافر الوظائف بوتيرة لم نعهدها منذ جيل كامل.
ورغم الفوائد التي قد يعود بها ذلك، على المجالات المهنية التي يعمل فيها الكثيرون، فإنه قد يبدو مزعجا للغاية، بالنسبة لمن أثر الوباء على شخصياتهم، وجعلها أكثر انطوائية، وأقل قدرة على الانضباط الذاتي أو التحلي بالطموح.
ويجب علينا التأكيد في البداية على أن الاتصاف بطبيعة انطوائية، ليس خطأ في حد ذاته. لكن إذا كانت مهنتك، تنطوي على ضرورة التواصل مع الآخرين، والاضطلاع بمهام قيادية، وتستلزم أن تكون نشيطا للغاية، فإن تعزيز السمات الانبساطية في شخصيتك سيجعل اندماجك مع فريق عملك من جديد أمرا أكثر سهولة، وسيسهل تكوينك شبكة علاقات على صعيدك المهني، كما سيكون من السهل أن تغتنم أي فرص قد تسنح لك في هذا الشأن.
وقد سبق لي أن أوضحت في كتابي "كُن كما تريد"، كيف يمكن للمرء أن يغير صفاته الشخصية، سواء من الخارج أي عبر الاستعانة بمؤثرات خارجية، أو من الداخل؛ من خلال الاستفادة من خصاله الأخرى ودوافعه الداخلية.
فإذا كنت مثلا ترغب - في ظل استعداداتك لاستئناف حياتك العملية كما كانت قبل تفشي الوباء - في أن تعزز السمات الانبساطية في شخصيتك من الداخل، يمكنك أن تدرب نفسك، على أن تصبح أكثر تفاؤلا. فأصحاب الشخصيات الانبساطية بشدة، يتسمون بأنهم متفائلون أكثر من المستوى المتوسط السائد بين البشر، وهو ما يشكل حافزا لهم للسعي لنيل إثابة أو مكافأة في عملهم، لأنهم يتوقعون - بفعل تفاؤلهم - أن تمضي الأمور على ما يرام.
ومن بين أكثر تدريبات تعزيز روح التفاؤل، التي يجري اتباعها وتشير الدراسات التجريبية إلى أنها جديرة بالثقة، تدريب يُعرف باسم "أفضل تدخل ذاتي ممكن"، ويتمثل في أن تعكف لمدة نصف ساعة أو نحو ذلك أسبوعيا، على تخيل سيناريو افتراضي، تتصور فيه ما الذي سيكون عليه حالك في المستقبل، إذا سارت كل الأمور كما تتمنى، وأنجزت جميع أهدافك في الحياة، وذلك بعدما بذلت قصارى جهدك على هذا الصعيد. ويُفترض أن تجد نفسك بتكرار هذا التدريب، وقد أصبحت أكثر استعدادا للانخراط في عملك، والإقدام على مجازفات فيه كذلك.
وبطبيعة الحال، هناك طرق يمكنك من خلالها إعادة تنشيط السمات الانبساطية في شخصيتك، لكن من الخارج هذه المرة. فإذا كان لديك شريك عاطفي أو أصدقاء، بمقدورهم إخراجك من العزلة، التي ربما تكون قد وضعت نفسك فيها خلال فترة الإغلاق، فعليك أن تخطط لقضاء وقت أطول معهم إذا كان بوسعك ذلك. فللعلاقات الوثيقة التي نقيمها مع مَنْ حولنا، تأثير كبير على سماتنا الشخصية.
وفي السياق ذاته، هناك أساليب يمكنك من خلالها أن تعيد تنشيط اتصافك بالضمير الحي في التعامل مع المهام الوظيفية التي ستُسند إليك، وتحليك بالطموح والانضباط الذاتي، وذلك اعتمادا على خصالك ودوافعك الداخلية. ومن بين هذه الأساليب، أن تحدد ما الذي تعنيه قوة الإرادة بالنسبة لك؛ فهل هي أشبه بمورد ينفد كلما استخدمته؟ أم أقرب إلى مولد كهربائي ينتج الطاقة كلما تم تشغيله؟
ويمكنك أن تدرب نفسك هنا، على أن ترى أن جهودك في العمل تعود عليك بالنفع، وتحقق لك الاكتفاء الذاتي. ويميل من يتبنون هذه النظرة، إلى أن يكونوا أقل عرضة للشعور بالإعياء وتشتت الانتباه والتركيز في أماكن عملهم. كما تظهر فوائد اجتهادهم في العمل، كلما طالت مدة بقائهم فيه.
في الوقت نفسه، بوسعك الاستعانة بعوامل خارجية، لتعزيز ما تتحلى به من طموح وانضباط ذاتي، وذلك من خلال إجراء تعديلات على البيئة المحيطة بك، بما يسهل عليك تحقيق أهدافك. فيمكنك مثلا أن تعتاد أن تُحضر خلال فترة المساء، ما ستتولى العمل عليه في الصباح التالي، وأن ترتدي سماعات الأذن خلال وجودك في المكاتب المفتوحة، بهدف حجب الضوضاء والأحاديث الجانبية عنك، ومن ثم الحيلولة دون أن يتشتت انتباهك. وبمقدورك أيضا استخدام التطبيقات، التي تضع حدودا لاستخدامك وسائل التواصل الاجتماعي.
وعليك أن تعلم هنا، أن من يُوصفون بأنهم أكثر اتصافا بالضمير الحي من سواهم، لا يمتلكون قوة إرادة أكثر من غيرهم، بل إنهم فقط أكثر ذكاءً، في تجنب عوامل الإغراء في المقام الأول.
لذلك، فبينما تُعِد نفسك للعودة إلى حياتك العملية كما كانت في السابق، بمقدورك تبني عادات داعمة لك، من شأنها أن تساعدك على إعادة تنشيط ما كنت تتصف به من قدرة على الانضباط الذاتي، في عالم ما قبل فيروس كورونا. وبمرور الوقت ستصبح هذه الصفة، جزءا منك من جديد. حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات