كانت ليلة شديدة الحر غاب عنها القمر إلا بصيص من ضوئه يمتد على استحياء، يتسلل نحو نهر الفرات الذي خيم الحزن على امواجه، فأمسى يتمنى لو لم يكن ماء كي لا يشرب منه اعداء الله، وآل الرسول أكبادهم حرى من العطش، وراح ينعى وينوح بخريره ألما، ويتمايل على ضفتيه نخيل كربلاء مواسيا، وينحني احتراماً لمن حل على أرضه، تلك الصحراء المقفرة تبدو على غير حالها تلك الليلة، فلا الرمال ذات الرمال، ولا النخل القليل كما هو، حتى ان الفرات بات ليلته تلك وهو مضطرب الامواج يستغيث... من جيوش لا حصر لها اصطفت بجانبه استعداداً للغدر بالحسين (عليه السلام)، وعلى بعد أمتار ليست بالكثيرة معسكر الحسين (عليه السلام)، أعمدة مخيمات معدودة لثلة قليلة من خيرة الخلق محاصرين مُنعوا شرب الماء .
جلس هو على اعتاب احدى الخيم يراقب حركة النجوم تارة ويصلح سيفه تارة أخرى استعداداً للمواجهة، ثم يبقى ساهماً وشريط من صور حياته يتوالى أمام عينيه مذ كان طفلاً صغيراً وهو يستمع لبطولات والد مجاهد مع رسول الله، وحتى أيام شبابه حيث المواقف المشرفة والعظيمة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وآله، فأدركه وهو في مقتبل العمر واستمرت مواقفه مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحروباً خاضها مع علي عليه السلام لنصرة الدين واستقامة الحق، في أكثر من معركة... ثم مع الامام الحسن عليه السلام، وكيف كان يتتبع أخبار الحسين عليه السلام كمن ينتظر امراً ما، لحين سماعه خبر خروج الحسين عليه السلام طالب الاصلاح. تذكر مساء أخبر اهله انه سيلتحق بركب الحسين عليه السلام، وساعات الوداع كيف وقف أمام اولاده طويلاً يوصيهم بجملة وصايا ومن بينها نصرة آل الرسول في كل زمان ومكان والتضحية من أجلهم، ثم أطال النظر في وجوههم كمن يودع احياء لا لقاء لهم بعده، وبالفعل لم يتخلفوا عن نصرة آل الرسول فقد تميز أولاده واحفاده بدفاعهم عن الدين والعقيدة ووقوفهم بوجه النظام الاموي وخصوصاً بعد واقعة كربلاء.. ويوم شد الرحال حيث سيده ومعشوقه قبلة الاحرار، ومضى ملوحاً بيده أن في امان الله واللقاء في الجنة، وخرج يحث الخطى ويسابق الريح للحاق بركب الحسين عليه السلام، وها هو ذا يتساءل مع نفسه ياترى هل حقاً سأنال الشهادة!؟ واحقق حلم جاهدت سنوات طويلة للوصول اليه؟ وأقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله؟ يُحرك سيفه يمينا ويسار بعصبية فخراً واعتزازاً، انه سيف لطالما كان قاسياً شديداً على الكفار، ضارباً مدافعاً بين يدي رسول الله، ثم بين يدي وصيه وتحت إمرته، وهاهو سيخوض حرباً ضد طواغيت العصر بين يدي أبي الاحرار وفي سبيله، كربلاء تعيش معه وفيه، لم يدخر لها سيف والده الذي لم يحظى بشرف الشهادة فحسب لا بل ادخر لها روحاً اختارت الموت في نصرة الحسين على أن تحيا من بعده، ها هو حلم الوالد والولد سيصبح حقيقة مع بزوغ شمس يوم العاشر من محرم، هكذا كان يُمني نفسه ويُحدثها حين نادى منادي ان الحسين يطلبكم فنهض مسرعاً (سمعاً وطاعة).
جمع الحسين أصحابه تلك الليلة فخطب قائلاً لأصحابه واهل بيته بعد ان أثنى على الله تبارك وتعالى وأحسن الثناء والحمد؛ (أما بعد فإني لا اعلم أصحابا أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً خيراً....
ألا وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فإن القوم انما يطلبوني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري) أسرع يزيد بن مغفل بما أوتي من قوة عقيدة وولاء يقترب من الحسين عليه السلام ترتعد فرائصه، أخذته قشعريرة يرتجف لها عظمه، فبعدما تجمرت نار شوقه للشهادة يرى نفسه من جديد في منأى عنها، كان كلام الامام قد بدد أحلامه التي فرق حزمة سنينه وأيام عمره يتمنى تحقيقها، أخفض رأسه وتدلى ذقنه وتدحرجت دمعاته من بين اهدابه تهدج صوته وارتجف تمتم بعبارات وكان يعتريه الألم ورد قائلاً هو وجملة من الأصحاب: والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا، وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قُتلنا كنا وفينا وقضينا ما علينا).
حين تغدو الحرب عرساً سيتحول الموت الى فرح وسعادة أبدية تختصر عذابات السنين فيأنس بالموت الذي يراه في نصرة الحسين عليه السلام أحلى من العسل، لا يعرف للخوف معنى، فأولئك رجال خبروا الحرب ونصرة الدين وهم في أصلاب الرجال، يلعبون بالسيوف ويلهون بالرماح، رجال ربطوا القلوب على الدروع، إنهم قوم كُتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم حباً بآل الرسول يتسابقون للموت ولقائه بين يدي الحسين عليه السلام.
خرج من عند الحسين قرير العين مطمئن القلب كان يخشى أن يأمرهم الحسين بالتخلف عن ركبه؛ فيزيد بن مغفل تربى في بيت عامر بالايمان وقد كان والده واعمامه واخوته ممن دافع عن الاسلام وصدق بالرسول ووصيه... ساعات قلائل وسيقترن اسمه باسم الحسين، وسيكون سلاماً عليه مقترن بسلام الحسين عليه السلام، ولكن لايزال الليل في أوله ولا طاقة له بالصبر حتى الصباح، أي عشق تراه هذا العشق وأي اصحاب هم اصحاب الحسين عليه السلام.
ومضت ليلة العاشر والحسين وأصحابه وأهل بيته لهم دوي كدوي النحل، فهم بين راكع وساجد وتالي للقرآن رويداً رويداً بدأت حروف الاذان تناغم اسماعهم وارتفع صوت المؤذن الله اكبر... اصطفوا رجالاً يؤمهم الحسين عليه السلام، انشغالهم بالصلاة زادهم شوقاً للعالم الاخروي وراحت ارواحهم تهفو للشهادة.
أطل صباح ثقيل وجلت الشمس حلكة الليل، لهثت الارض بغوثها العطش... العطش... رمال جافة وشمس حارقة وصحراء مقفرة وهم صامدون أمام الجوع والعطش وحرارة الجو وأعداد هائلة من العدو، مدججين بالسلاح، وهم على استعداد، يتلهفون لحرب الكفر والضلالة، لم يأذن لهم الحسين عليه السلام بالقتال بعد!! فهو يكره أن يبتدىء قتال، حتى رشق العدو خيامهم بنبال أذنت لهم بالحرب، وراحوا يتسابقون في ما بينهم، حتى تقدم يزيد بن مغفل نحو الحسين عليه السلام وطلب الاذن بالقتال فأذن له الحسين عليه السلام، ودعه لا بل حمله مع كل خلية بجسده، وراح يقاتل الاعداء، كان يستشعر عيون الحسين عليه السلام وهي تراقبه من بعيد، ويسمع صوت حامل الراية التي رفعها بعنفوان وصبر تخفق بصدى الخلود وترفرف عاليا، فبرز وهو يرتجز ويقول:
انا يزيد وانا ابن مغفل وفي يميني نصل سيف منجل
اعلو به الهامات وسط القسطل عن الحسين الماجد المفضل
فحمل على القوم وكانوا يلوذون بالفرار من بين يديه، فكانت هذه الكلمات كفيلة بأن تقذف الرعب في قلوب الاعداء، وتُعيد كبار قادة القوم إلى سنين مضت في حروب طاحنة مع علي عليه السلام، وكيف كان فارس همام مدافعاً عن الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، وإلى اسلافه الماضين فهم يعرفون تماماً من يكون والده واعمامه واخوته وكأنهم بشخصه يرون ذات الوالد الصحابي الجليل المحب العاشق لرسول الله (ص) كيف كان من السباقين لدخوله في الاسلام وشارك الرسول حروبه وغزواته طائعاً لله ولرسوله محباً لآل بيته.
ارتفعت همهمة القوم، فنادى أحدهم انه ابن مغفل، وتمتم آخر انه ابن اخ ذو البجادين ذاك الذي ترك المال والجاه وتجرد من لباس الذل، وصاح آخر اي حسين أي الرجال جمعت لقتالنا إنهم من خلص الرجال من السباقين في نصرة الاسلام، ونادى قائد ميمنة عمر بن سعد، عمرو بن الحجاج الزبيدي (يا أهل الكوفة
أ تدرون من تقاتلون! تقاتلون فرسان المصر وأصحاب البصائر وقوماً مستميتين لا يبرز إليهم أحد إلا قتلوه على قلتهم) .وقاتل قتال لم يُرَ مثله وقتل عدد كبير من جيش الكفر وكان يحمل على القوم فلا يُبقي منهم أحد وهو يقول: إن تُنكروني فأنا ابن مغفل شاك لدى الهيجاء غير أعزل وفي يميني نصل سيف منصل أعلو به الفارس وسط القسطل).
حتى أتعبه لهيب الشمس وزاده عطشا ماجعل العدو يتمكن من محاصرته وكما هو ديدن جبناء الحروب، مَنْع الماء والمحاصرة والكمائن؛ أُثخن بالجراح وسقط شهيداً عطشاناً مخضباً شيبته الكريمة من دمائه الطاهرة، بعدما أبلى أحسن البلاء، وبالغ في الدفاع، وأعطى غاية المجهود، بأعلى درجات الاخلاص دفاعاً عن الدين والعقيدة في سبيل الله وحباً بآل الرسول ومع آخر نفس في عالم الدنيا، وتعلو وجهه ابتسامة الفوز والخلود نادى عليك مني سلام الله يا أبا عبد الله.
اضافةتعليق
التعليقات