يقول العارفون من أهل الوسيلة: إذا أردت أيها الانسان الاقبال على رب الارباب ما عليك سوى قطع الصلات مع ميول النفس كي تحلق في فضاء ملكوتي صافٍ لتصل إلى شفافية الروح في نهاية المطاف.
وهذا هو مضمون العرفان العملي، والذي دأب على استخدامه الواصلون إلى الله.
(والعرفان العملي عبارة عن العلم بطريق السير والسلوك، فمن أين يبدأ، وإلى أين ينتهي، وما هي المنازل والمقامات التي يجب أن يسلكها العارف
للوصول إلى الله تعالى، وكيفيّة مجاهدة النفس للتغلّب على ميولها وتحريرها من علائقها، حتى تستطيع طيّ المراحل والجدّ في سيرها إلى الله تعالى).
والسؤال الآن: ونحن في ضيافة شهر رمضان المبارك هل بمقدور الجميع التحليق في فضاء الأرواح لتحقيق الوصول؟
الجواب على ذلك يعتمد على قدرة كل منا في طي المراحل بتوفيق من الله سبحانه.
فالنفس البشرية تعرف دواخلها وما يعتلج فيها من ميول متضاربة وهواجس مختلفة ومتباينة وبتعبير القرآن الكريم: "بل الانسان على نفسه بصيرة"، وهو بالتالي اعرف بنفسه من غيره.
فإذا أراد الواحد منا أن ينطلق في تزكية هذه النفس ليس أمامه سوى التغلب على كل العراقيل التي تقف كحجرة عثرة تسد منافذ الطريق.. وشهر رمضان هو المحطة الأنسب لغربلة الصفات السلبية التي تشدنا إلى القاع، والوقت المثالي للتحليق بجناحين جديدين في فضاءات الروح .. ولعل قصة الصقر الذي لا يطير توضح لنا المعنى بشكل أدق:
(تلقى أحد الملوك صقرين رائعين كهدية، وكانا أجمل ما رأى من الطيور، فأعطاهما لكبير مدربي الصقور لديه ليدربهما..
ثم بعد شهور جاءه مدرب الصقور ليخبره أن أحد الصقرين يحلق بشكل رائع ومهيب في عنان السماء، بينما لم يترك الآخر فرع الشجرة الذي يقف عليه مطلقًا. فما كان من الملك إلا أن جمع الأطباء من كل أنحاء البلاد ليعتنوا بالصقر، لكن لم يتمكن أي منهم من حثه على الطيران.
وبعد أن أعيته السبل لحث الصقر على الطيران، خطرت بعقله فكرة: "ربما عليَّ أن أستعين بشخص يألف طبيعة الحياة في الريف، ليفهم أبعاد المشكلة".
وأمر فورًا بإحضار أحد الفلاحين. وفي الصباح ابتهج الملك عندما رأى الصقر يحلق فوق حدائق القصر، فأمر حاشيته بإحضار الفلاح الذكي الذي نجح فيما لم ينجح فيه آخرون. فأحضروه ليقف بين يدي الملك الذي سأله: "كيف جعلته يطير؟"،أجاب الفلاح بثقة: "كان الأمر بسيطًا. لقد قمت بكسر الفرع الذي كان يقف عليه فاضطر أن يعتمد على نفسه وأن يجد وسيلة ليتعايش بها فقام بالتحليق).
ونحن كذلك البشر ليس أمامنا إلا أن نكسر كل الأغصان التي اعتدنا الوقوف عليها فحالت بيننا وبين التحليق.. الكذب، الظلم، السرقة، الغش، الخيانة، الغلو، التكبر، العصبية، التواكل، الغيبة، النميمة، الكسل، وغيرها كثير من اغصان شجرة الزقوم.
وهذا شهر الرحمة والمغفرة فاتحا ذراعيه لكل الغارقين في بحر الذنوب، فيا أيها الغارق في بحر الخطايا، إن لم تكسر أغصانك في هذا الشهر الفضيل فمتى ستكسرها إذن؟!
فلا مناص من التعرض لنفحات شهر الله الكريم، عسى أن يشملنا ربنا برضاه، فيوفقنا للتحليق في ملكوته الأعلى.
اضافةتعليق
التعليقات