في القصة المشهورة عن إيمان "عجائز نيسابور" يُقال: إن فخر الدين الرازي مر ذات يوم في موكب له مع طلابه بامرأة من عجائز نيسابور، فسألت: من هذا؟ قالوا لها: إنه الإمام الجليل الفخر الرازي؛ الذي وضع ألف دليل على وجود الله، فقالت: سبحان الله! أو يحتاج الله للأدلة على وجوده؟ لولا عنده ألف شكٍّ، لَما وضع ألف دليل، فعندما بلغ الإمام الرازي مقولتها، قال: اللهم إيمانًا كإيمان عجائز نيسابور!.
فراح الناس - بعد ذلك - يتناقلون هذه القصة، ويذكرونها في مقام الاستشهاد على قوة الإيمان التي تأتي بالفطرة، دون تكبد مشاق التعلم والتبصر والاستهداء.
والمعنى الدلالي المقصود بـ"إيمان العجائز" هو الدين الصافي الذي يكون بالتصديق والتسليم، والخالي من المشوشات الفكرية والأسئلة الفلسفية؛ فالبسطاء غالبًا ما يصدقون كل ما يقال لهم دون استدلالات.
لا أودُ التركيز هنا في أصل القصة وصحتّها ودقّة ما جاء فيها من عدمه؛ فلقد رأيتُ فيها دلالات فتحت ذهني لأبعاد إنسانية أُحبّذُ الخوض فيها. من غرابة التكوين البشري إنه يدور في دائرةٍ ثابتة، تبدأ من نقطة محددة وتنتهي عند ذات النقطة لكن بطريقة معاكسة. يُولد الإنسان طفلاً لا يعلم شيء ولا يقدر على شيء، يجهل ما يدور حوله ويجهل وجوده كله، ثم يمر بمراحل عمرية مختلفة، تضيف له كل مرحلة خبرات وقدرات جسدية جديدة، وهكذا دواليك، يستمر الأمر حتى تمر السنوات وتوشك الحلقة على الاكتمال فتتقارب نقطة النهاية مع نقطة البداية تقارباً في المسافة وفي الخواص وهو بين النقطة الأولى والأخيرة يخوضُ عُمرًا كاملًا بكل ما فيه من أحداث وأقدار وسعادة وابتلاء.
في مقطع من دعاء البهاء الذي نقرأه ونسمعه في ليالي شهر رمضان عند السَحر: "اَللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ جَمالِكَ بِأَجْمَلِهِ وَكُلُّ جَمالِكَ جَميلٌ، اَللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِجَمالِكَ كُلِّهِ" فما هي صور جمال الله؟ وكيف يمكن أن تُلمس وتُرى؟ إنه جمالُ المصدر والمنبع، جمالٌ يتسرّب ويُجمّل كل ما يمرُ عليه، جمالٌ يُربّي ويُعلّم ويبني إنسانًا جديدًا. من أشكال تجسّد جمال الله هي أقداره، فلأي درجةٍ من درجات الثقة بأقدار الله يصلُ المرء ليرى أنها كلها أقدار جميلة! أيُ إيمانِ هذا الذي يجعل الكثيرين يقفون صامدين في وجه أشدّ الأقدار إيلامًا ووجعًا ليُسلّم أمره لله تسليمًا تامًا ويؤمن بـ إنا إليه راجعون وبـ لله ما أعطى ولله ما أخذ! بينما يعترض البعض ويتذمر من حالة الطقس أو من إصابته بالزكام!
يُثير هذا النوع من التسليم غيرةً حُلوة وعذبة في نفس من يطمح أن يبلغ هذا المبلغ من الثقة بالله، أن يحيا كل أيامه بسِعة صدر وتوكّل تام ويقين بأن الله لا يسوق للمرء إلا كل خير، ولا يضع في دربه قدرًا إلا وهو يريد به صلاحًا له ورفعةً لشأنه. لا يُمكن فهم حكمة الله في أقداره إلا بالصبر والتسليم، هنالك أشياء كنّا نتمنّى حصولها في بداية الأمر، ثم كم فرحنا في المستقبل لتأجّل وقوعها أو حتى انعدامه؛ لأن ما قضى الله به كان أفضل ممّا كنا نتمناه.
وتبيّن لنا أنّ المنعَ أحيانًا يكون هو عين العطاء، فليس الأفضل هو ما نرغبه أو نتمناه، ولكن الأفضل هو ما أراده الله تعالى؛ وهذا هو السرّ الكامن في روح التسليم، فكم من أمرٍ عسير تيّسر بعد يأس، وكم من بابٍ وُجد له مفتاح بعد كرب، فلله الأمر كُله، هو صاحبُ الخير ونحنُ على أبواب رحمته متربصين ومن نبع عطائه ناهلين. "اَللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ رَحْمَتِكَ بِأَوْسَعِها وَكُلُّ رَحْمَتِكَ واسِعَةٌ، اَللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ كُلِّها."
اضافةتعليق
التعليقات