كثيرا ما نسمع هذه العبارة "إن سر سعادة الإنسان ومعرفته لمعنى حياته أو الطريق لبلوغ السلام والاطمئنان في وجوده هو يبدأ من العمل على وجوده الباطني، ومن خلال النظر وتغيير ما في داخله، لا أن يعمل أو يبحث في وجوده الخارجي".
وفي هذا الخصوص قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) لرجل: «إنك قد جعلت طبيب نفسك، وبين لك الداء، وعرفت آية الصحة، ودللت على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك»(١)، فكما إن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، جعل تكليف الإنسان أن ينظر في هذه الخلقة، ينظر في داخله أولاً، ليستخرج هذا الحُسن فيستثمره في بناء وجوده في هذا العالم ولما بعده.
وللإمام (عليه السلام) وصية أخرى بهذا الخصوص يعطينا من خلالها خطوات عملية، وذلك في قوله: «اجعل قلبك قرينا برًا أو ولدًا واصلًا، واجعل علمك والدًا تتبعه، واجعل نفسك عدوا تجاهدها، واجعل مالك عارية تردها»(١)، فالملفت في الرواية إن أول أمر أبتدأ به الامام (عليه السلام) في وصيته هو القلب ثم ثنى بالعلم ثم ثلث بالنفس ثم ختم بالمال.
فمن اللطائف القرآنية التي يمكن أن نفهم منها وجه من أوجه الابتداء بالقلب في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضاً}، إذ يقول المفسر "من الملفت إن نسبة زيادة مرض القلوب كانت للذوات وأصحاب تلك القلوب لا إلى القلوب، وبذلك يصبح القلب هنا بمنزلة الإنسان، وذلك لأنّه إذا انحرف الروح والقلب، ستظهر آثار هذا الانحراف في القول والعمل، إذن القلب جوهر وحقيقة الإنسان".(٢)
وهنا- كما يبدو- يراد بالقلب الجانب الوجداني والمشاعري فينا، فمن لم يكن مصاحب لقلبه فتكون عواطفه ومشاعره حقيقية بمعنى أن يكون هناك اقتران وانسجام وتناغم تجاه الأشياء والأشخاص فيما يبطن ويظهر، وإلا فإنه سيكون سقيم القلب وهكذا سيعيش غربتين، غربة مع نفسه وغربة مع كل شيء حوله.
والجعل الذي يمكن فهمه من قول الإمام (عليه السلام) هو جعل مركز مشاعر الإنسان منطلقة من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، فمن كانت مشاعر الحب الإلهي في قلبه هي النبع الذي تستقي منه كل المشاعر الأخرى، كان قلبه سليمًا، وجانبه الوجداني نقيًا وصافيًا تجاه كل شيء.
ثم ينتقل بنا الإمام (عليه السلام) الى العلم - ولعله هنا - المراد به هو جنبة العقل وما يعقله الإنسان، وذلك بجعله مصدر ليستدل ويحكم ويوزن أفكاره وما يتبناه وكل ما يبني عليه من قرارات، فمن معاني الوالد هو الإمام المعصوم كما جاء في الروايات «الامام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق»(٣)، فكل إنسان عاقل يريد فكرا مستقيما فليرجع إلى إمام زمانه الذي هو من أهل الذكر الذين أمرنا كتاب الله بالرجوع إليهم، ليستنير العقل ويسلم الفكر بعلمهم الإلهي.
وما أن ينظم الإنسان جانبيه الوجداني والعقلي ويكون ذو قلب متعقل، يسهل عليه عندئذ النظر في نفسه - وهو الخطوة الثالثة في وصية الإمام - ليكتشف نقاط ضعفه أمام مغريات الدنيا فيهذبها بالمجاهدة الممزوجة بتقبل وجودها مشاعريًا وضبطها بالتعقل توعويًا، فإن وصل الإنسان إلى هذه المرحلة من الانضباط الداخلي في وجوده، هنا سيرى أثر ذلك على وجوده الخارجي من خلال سلوكه الفردي والاجتماعي ومعرفته لوجهته التي خلق من أجلها.
فالمال الذي به ختمت الوصية هنا يراد به -كما يبدو- المصداق الأعم أي كل قوة مادية ومعنوية عند هذا الإنسان (كالثروة، العلم، والوجاهة، السلطة، الخبرة، القدرات، المهارات)، فإن عمل الإنسان بقوامة قلبه وعلمه ونفسه -كما أوصى الإمام- سيصل حتما الى هذه الحقيقة ألا وهي إن كل ما لديه إنما هو مخول به لا مالك حقيقي له، هو مستخلف عليه لينتفع منه وينفع خلق الله تعالى به.
وهذا المعنى نجده في كلمة جدًا جميلة أخرى للإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيها: «وإن كانت لك يد عند إنسان فلا تفسدها بكثرة المن والذكر لها ولكن اتبعها بأفضل منها، فإن ذلك أجمل بك في أخلاقك، وأوجب للثواب في آخرتك»(٤)، أي كلما مُكِن الإنسان وكانت له يد وقدرة لابد أن يكون الانفاق والاستمرار في البذل أوجب واسبق عنده، وبذلك يحافظ على توازنه النفسي فلا يغتر ويطغى، وليصل إلى كماله الإنساني فيفلح ولا يشقى.
————
اضافةتعليق
التعليقات