لم تكن تطلعات الإمام القيادية تنحصر في تدبير الجيوش، وإعداد البعوث، وإدارة دفة الحكم، وتعاهد الولاة والعمال، ولكنه كان إلى جنب ذلك معنيّاً عناية خاصة بتهذيب النفس الإنسانية، وإصلاح الذات عند المسلمين باعتبارهما النواة في خلق جيل جديد يواكب النهج الإسلامي الجديد في صقل الطباع وتيقظ الضمائر.
تسلم عليٌّ (عليه السلام) والحكم فواجهته أحداث كبار جرت إلى حروب كبار أيضاً، فقد بلي بجبروت، الناكثين وتهور المارقين، وطغيان القاسطين، فعالج ذلك بما رأيت وقرأت.
ودهمته الأثرة وحب الشهوات وتطاول الناس بما فيهم الصحابة أو بعض الصحابة وقسط من أبناء المهاجرين والأنصار إلى المناصب الرفيعة والولايات الفارهة فولّى من له أهلية الحكم، وعزل من يستقيم معه أمر الدين وفجأه انحراف السلوك الوظيفي للفرد فأراد تقويمه والعودة به إلى الحضيرة، الإسلامية وهذا يعني بذل الجهد الإضافي الحثيث ليعادل التوازن ويعالج تدهور الرغبات كما لا يقول علماء النفس.
فينتزع حب المال من النفوس وشهوة الحكم لدى الطالبين فينتزع حب التقوقع على الذات عند السواد، فقد بُلي الإمام بطبقة من الناس تستهويها شهرة الأسماء - مضافاً إلى ما تقدم - دون النظر في حقائق الأشياء، وكان هذ الابتلاء يستوي به عليّة القوم، وضعفة الرجال، وأقرب الناس إليه، وأبعدهم عنه..
فهذا محمد ابن الحنفية وهو ابنه وهو في الذروة من الورع والحيطة قد يستعظم منزلة الزبير، وسابقة طلحة، وأمومة عائشة، فتملكته الحيرة حيناً، ويذهب به التساؤل حيناً آخر، فيجبهه الإمام ببديهة صارمة تصادر الحيرة، وتجيب عن التساؤل، ويقول له:
(يا بني إنك ملبوس عليك، لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله).
وكان منهج الإمام هذا حرياً بأن يصلح شيئاً من النفوس، أو يخفف من غلوائها في الأقل من التهافت على الدنيا، والانغماس بمباهجها، ولكن هذا النهج أيضاً قد يرضي قوماً، وقد يسخط آخرين، حوله القليل، وقد ينفض عنه الكثير، وقد أدرك الإمام هذا الملحظ إدراكاً عميقاً، فقال: "لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولو أسلمني الناس جميعاً لم أكن متضرعاً".
ولم يكن الإمام لتعجزه الحيلة في تحقيق المأرب وإدارة الحكم ذلك صفحاً، وينأى عنه الساسة، ولكنه يعرض عن ما يديره غيره من جانباً إذ التمس كل ذلك من الطريق المستقيم الذي استنه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وهذه الاستقامة عند الإمام هي التي ذهبت به كل مذهب في الصرامة غير متهاون فيها، ولا متهاون عنها، حتى قال: (الضعيف الذليل عندي قوي حتى آخذ الحق له والقوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ الحق منه).
ولو قدر للإمام أن يطبق سياسته هذه بتفاصيلها، ويمثل منهجه بمفرداته كافة، لانتقل بالإسلام والمسلمين إلى عالم رحيب أوسع، رأيت فيه من الخير العميم ما يذهل العقول، ولكن الإمام غلب على أمره بالفتن والمحن كما غلب على رأيه بالمعارضة الجافة، حتى قبل أن علياً لا علم له بالحرب، ولا صبر له على القتال، وشواهد العيان تأبى ذلك، ودلائل الحدثان تنفي هذا الزعم المتهافت.
اضافةتعليق
التعليقات