قال تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرئ بما كسب رهين) (سورة الطور/21).
من الميول الفطرية، والتي تظهر في فترة الطفولة، الحاجة إلى العطف والحنان، وإن الاستجابة لهذا الميل الطبيعي، وإشباع هذه الحاجة، جزء من المنهاج الفطري الإلهي، وتتسع دائرة تأثيرها منذ الأسابيع الأولى بصورة متفاوتة في حياة الإنسان، وتكون لنتائجها السلبية أو الإيجابية الأهمية الفائقة. وبلا شك فإن التنمية السليمة لعواطف الطفل وتوجيهها الوجهة الصحيحة تشكل أحد الفصول التربوية الأساسية وتعتبر من الواجبات المهمة للوالدين؛ حيث يستيقظ الشعور العاطفي عند الطفل في وقت مبكر.
ففي الوقت الذي يكون سراج العقل غير مشتعل بعد عند الطفل، إذ لا يدرك شيئاً من ناحية المنطق، ولا يملك طاقة بدنية كاملة، نجد أن الشعور العاطفي يستيقظ عنده، ويكون قابلاً للتوجيه والضبط. وإن غفلة الوالدين عن هذا الظرف تؤدي إلى آثار سيئة على روح الطفل .
المحبة بين المد والجزر:
إن المحبة ضرورية لنمو روح الطفل ولتفتح أزاهير الفضائل في قلبه، فالحب أساس البناء الخلقي، فكما أن الطفل يحتاج إلى الطعام والماء والهواء والنوم بفطرته، فإن العطف والحنان من أطيب الأطعمة النفسية للطفل، ولكن الأمر الأهم من ذلك هو معرفة التوازن الصحيح في كمية المحبة، وكيفيتها وأسلوب إظهارها؛ فهذا الأمر من الأهمية بحيث لا يقل عن أهمية المحبة ذاتها. وبما أن الإكثار من الغذاء أو التقليل منه أو تلوثه يؤدي إلى آثار سلبية على نمو بدن الطفل، فكذلك الحال بالنسبة للإكثار من المحبة أو التقليل منها، أو المحبة في غير موضعها، والتي تنعكس على روح الطفل بآثار سلبية مشؤومة، وتسبب له مشاكل كثيرة.
فالأطفال الذين يبذل لهم من العناية والمحبة المفرطة ويستسلم لهم آباؤهم وأمهاتهم بدون أي قيد، ويستجيبون لجميع مطالبهم، سواء كانت صالحة أو طالحة... سينشأون على الاستبداد والإعجاب بالنفس، ويحملون بين جنباتهم أرواحاً ضعيفة ونفوساً سريعة الانهزام عند مواجهة أبسط المواقف في الحياة؛ إذ إن الهدف من التربية الصحيحة هو أن تكلل حياة الطفل بالسعادة وتختم جهوده بالنجاح، فالحياة على طولها تتضمن صراعاً تكشفها المطبات، فعلى الفرد أن يواجهها في مختلف أدوار حياته.
وهكذا فالآباء والأمهات هم الذين يعملون على تنشئة جسم الطفل وروحه على أحسن الأساليب التربوية، بالتوازن بين العطف والحنان والشدة والخشونة، وبذلك يتمكن من الصمود أمام المصائب والاندحارات الروحية .
يقول ريموند بيج: (يجب أن ننبه على أن بعض الأخطاء في السنين الأولى من حياة الطفل وأكثرها شيوعاً، هو الأسلوب الذي يؤدي إلى غرور الطفل وأنانيته. إن المحبة بدون سبب في الأيام الأولى هي التي تسبب غرور الطفل وأنانيته، إن هذه الأعمال تستوجب الاستحسان في الظاهر أما في الباطن فإن الخطر الكامن وراءها موحش جداً)(1).
العواطف السلبية تجاه الطفل:
إن الطفل مفطور على حب الحرية.. وإنه يرغب في أن يعمل ما يريد ويمد يده إلى ما يشاء ويرغب في تنفيذ ما يطلب، ولكن هذا ليس في صالح الطفل لأنه لا يميز الحسن من القبيح ولا الخير من الشر. فقد حذرت الشريعة الإسلامية في تعاليمها بهذا الشأن أولياء أمور الأطفال من الإفراط في المحبة تجاههم، فهؤلاء الآباء والأمهات الغافلون ليس لهم أي اهتمام بخير الطفل وصلاحه؛ فهم في الواقع بعملهم الأهوج هذا يحملون معاول الهدم لأساس سعادة أطفالهم، وكل يوم يزداد من عمر الطفل يزداد إعجابه بنفسه، وتتأصل في روحه جذور الاستبداد والتعنت بالرأي ويصبح عالة على المجتمع.
الأئمة (ع) يلومون هؤلاء المربين، فيقول الأمام الباقر(ع): (شر الآباء من دعاه البر إلى الإفراط)(2)؛ إذ إن سلوك الوالدين السيئين تجاه مواقف معينة كأن تكون لحظة أو لحظات يترك أثراً سيئاً في نفسية الطفل، ويكون شديد التأثير من الوجهة التربوية. ومن تلك اللحظات الحاسمة والمؤثرة؛ طفل حديث العهد بالحركة يلعب بالكرة أو بلعبة ماء على مرأى من والديه، في الغرفة أو في الحديقة، يرمي الكرة في جانب ثم يركض ليلتقطها ويكرر هذه الحركات المسلية بالنسبة له، وإذا به في إحدى المرات يرمي الكرة بالقرب من الجدار، ويركض منحنياً نحو الجدار ليرفع الكرة فإذا برأسه يرتطم بالجدار.. إن هذا الحدث يعتبر جديداً للطفل ولا يعلم كيف يتصرف أمامه، هل يبكي؟ أم يضحك؟ أم يسكت؟ فهو متحير... وينظر إلى أبويه ويراقب مدى تأثير هذا الحدث فيهم، وعند ذاك يجب أن يظهرا رد الفعل المناسب تجاهه؛ إذ ليس للطفل رأي في الموضوع، بل إنه يفعل ما يفعله والداه، فإن ضحكا ضحك، وإن تألما بكي، وإن سكتا سكت ويستمر في لعبه.
إن هذه اللحظة وغيرها من اللحظات المشابهة لها - كما قلنا - تكون شديدة التأثير من الوجهة التربوية في روح الطفل؛ فعلى الآباء والأمهات أن لا ينظروا في هذه الأحيان إلى الطفل أصلاً، وأن لا يعتنوا بتوقع الطفل من عطف وحنان أبويه، أي يتعين عليهم ألا يظهروا أي رد فعل للحادثة. وبذلك كله يفهمون الطفل عملياً أن الارتطام بالجدار والسقوط على الأرض وما شابه ذلك حوادث اعتيادية في حياة الإنسان. ولهم أيضاً أن يستفيدوا من تلك الفرصة فينصحون الطفل بكلمات لطيفة وهادئة قائلين له: عندما تقترب من الجدار أو العمود، تأخر قليلاً حتى لا يرتطم رأسك بالحائط، وكذلك عندما تنحني لالتقاط الكرة .
أما الآباء والأمهات الغافلون فإنهم يظهرون في مثل هذه الحوادث حناناً مفرطاً فيضمون الطفل إلى صدورهم ويقبلونه ويمسحون بأيديهم على جبهته أو المواضع التي تؤلمه، وربما يضربون الجدار أو الأرض ترضية للطفل وهو بالمقابل يرفع صوته بالبكاء والعويل ويسكب الدموع ويرى نفسه أهلاً للحنان نتيجة لما حدث... فعندما تتكرر محبة الوالدين الفارغة في حوادث كهذه، تتولد جذور الصفة الرذيلة في ضمير الطفل تدريجياً، وهي الإعجاب بالنفس، ويكبر على الدلال ويتوقع الحنان لكل حدث تافه يقابله في حياته، فإذا تساءلنا ترى كيف ستكون نشأة الطفل مع هذا التوقع الخاطئ؟ كيف سيجتاز مرحلة الطفولة منتقلاً إلى المراحل اللاحقة، ليواجه المجتمع بكل ما فيه من مصاعب وآلام كبيرة، فيومذاك لا يجد أحداً يتحبب إليه، أو يمسح على رأسه، خلافاً لما تعود عليه في أحضان والديه... وحينذاك يتألم ويحس في نفسه بالدناءة والضعف في الشخصية؛ فيقضي حياته بالتعاسة والشقاء. إن محبة الوالدين السلبية هي التي أدت إلى هذا المصير... وفي نفس الوقت سيصبحون في عداد شر الآباء على حد قول الإمام(ع).
كيف نوازن في المحبة؟!:
إن الواجب الثقيل الملقى على عاتق الأبوين، هو تحسين تربية الطفل، بحسب السنة الخلقية الفطرية؛ أي أن يعلما متى تجب معاملته بالحنان والمحبة، ومعرفة المقدار المطلوب له حينذاك؛ لأن نشوء الطفل أنانياً ومعجباً بنفسه هو حصيلة أحد أمرين:
إما المحبة المفرطة التي لا داعي لها منها في المكان المقتضي لها؛ فعندما يمرض الطفل - مثلاً - فإن الوالدين العاقلين يستعدان في هذه الحالة للعناية بصحة الطفل وعلاجه، ويحضران له الطبيب، ويراقبان حرارته في ساعات الليل والنهار، ويوحيان للطفل بأن حالته طبيعية، وأنه سيشفى إذا ما سمع نصائح الطبيب، وأخذ الدواء بانتظام، بحيث لا يحسسان الطفل بأنهما مضطربان أو متألمان.
أما بعض الآباء والأمهات الذين يضطربون ويجلسون أمام الطفل ناظرين وآثار التألم بادية عليهم، ويبكون ويتكلمون معه بتوجع، ويعتبرون مرضه حادثاً جللاً، ويفهمونه عملياً أن راحتهم واطمئنانهم قد فقدا نتيجة مرضه. إن هذه الأعمال والأحاسيس الفارغة ليس لها أي تأثير في معالجة المريض، ولكنها في الجانب الآخر تفسد أخلاق الطفل وتمنحه الكثير من الأنانية، فيعتقد الطفل أن له قيمة كبيرة وأهمية بالغة، واستطاع أن يجلب الأنظار إليه نتيجة مرضه. إن مرض الطفل يزول ولكن تبقى هذه النظرة الخاطئة في أعماق نفسيته، فيتوقع دائماً أن أبويه وسائر الناس يحترمونه لدرجة كبيرة.
فيجب أن يتراوح التعامل مع الطفل بين الخوف والرجاء، بحيث يرجو من أبويه المحبة، ويخاف منهما الغضب والشدة في آن واحد، فيتوضح له أنه ليس حراً في ارتكاب الأعمال القبيحة، وأنه سيعاقب عليها؛ فالمهم أن يسود في جو الأسرة المحبة والشدة، والتغافل والمحاسبة، والترغيب والإهمال... ولكن كلاً في محله المناسب، وعلى الآباء والأمهات أن يتصفوا بهذه الصفات، كل في مورده المناسب له، حتى ينشأ الطفل تنشئة صحيحة محيط أسري متماسك، ليشعر الطفل بالمسؤولية، ولا ينشأ معجباً بنفسه، إذ إن المشاكل الاجتماعية التي يواجهها الأطفال المدللون تظهر جلياً لهم وتصل قمتها عندما يتخطون دور الطفولة ويدخلون في معترك الحياة الواقعية.. إنهم سرعان ما يكتشفون بسلوكهم وأعمالهم عدم كفاءتهم لتحمل أعباء الحياة من خلال التجارب التي يمرون بها، حيث قال الإمام الهادي (ع): (من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه)(3).
الدرس المستخلص:
ركيزة السعادة، وقوة الإرادة:
1/ أن يلقن الطفل منذ اليوم الأول لحياته درس الثبات والتحمل، ويعوّد على كيفية مجابهة مشاكل الحياة برحابة صدر، فيتربى شجاعاً وصلباً، وعلى الوالدين أن يهتما بذلك اهتماماً كبيراً. يقول الشيخ محمد تقي الفلسفي: (إن الحياة تتطلب الشجاعة والصلابة قبل كل شئ، وبغير ذلك لا يمكن مواجهة مشاكلها. إن الطفل الذي لم ينل حصة وافرة من التربية الصالحة فاقد لهاتين الصفتين، فإن الاعجاب بالنفس لا ينسجم وقوة الإرادة بأي حال من الأحوال)(4).
2/ إن الحب المفرط للأبناء حجاب يغشى العقل فيمنعه عن مشاهدة الحقيقة، فإذا اقترن ذلك مع الجهل والإهمال من قبل الوالدين في تطبيق الأساليب التربوية الصالحة، فنجدهما يهملان الجوانب الدينية والعلمية المهمة، ويفرطان في معاملة الطفل بالحب والحنان، الأمر الذي يحمل بين طياته آلاف المشاكل والصعوبات إن حباً من هذا النوع هو في واقعة عداء متمظهر بمظهر الحب؛ حيث يقول جلبروت روبين الطبيب النفسي: (لا ريب أن الطفل زينة حياتنا، ولكن يجب أن لا ننظر إليه كنظرتنا إلى فاكهة أو وردة على الشجرة، لأنه وإن كان يأخذ عصارته النباتية وغذاءه منا، لكنه ليس جزءاً من شجرة وجودنا، بل إنه نبتة مستقلة، يجب أن نقطع الجذور والأغصان الصغيرة التي تربطنا به حتى لا تقف أمام نموه، ونمنع بدورنا من وصول العصارة النباتية إليه)(5).
3/ إن الآباء والأمهات الذين يظلمون أولادهم بالإفراط في المحبة والدلال، فيتسببون في نشأتهم على الإعجاب بالنفس، والتملص من المسؤولية والأنانية، وهم مسؤولون أمام الله في تعريض فلذات أكبادهم إلى الانحراف والشقاء. ويتوضح الأمر أكثر في قول السيد محمد تقي المدرسي: (فلنعط ـ إذن ـ كرامة لأطفالنا، ولننمِ فيهم روح الاستقامة، ولنعينهم على أن يحيوا حياة الأبطال، دون أن نفرط في تدليلهم، ونبالغ في رعايتهم والعناية بهم إلى درجة بحيث نجعلهم مرتبطين بنا معتمدين علينا؛ فإن المبالغة في الرعاية سوف تضرّهم، وهذا الإسلوب هو الذي من شأنه أن يخلق الاستقامة في نفوس الأطفال)(6) .
اضافةتعليق
التعليقات